اقتصاد

المبدعون المنسيون ونُظم المُلكية

سمعت جدي -ذات مرة- يتحدث عن أخيه وابن عمه اللذين سافرا أواسط عشرينات القرن العشرين إلى الإرجنتين، على الدرجة الثالثة مع باخرة نقل أشخاص وبضائع؛ حيث كان السفر يستغرق شهراً، وقد انقطعت أخبارهما إلى أن وصلت رسالة (مكتوب) منهما بعد بضعة أشهر، تقول إنهما وصلا وأنهما بخير.

اليوم، يتذمّر أيّ منا من طول رحلة السفر إلى الأرجنتين، حتى لو بالطائرة، لأنها تستغرق ما بين 10 و15 ساعة، على الرغم من راحة هذه الوسيلة، وعلى الرغم من أننا نستطيع الاتصال والتواصل بالصوت والصورة مع من نريد، عبر الكرة الأرضية كل لحظة، حتى ونحن على ظهر الطائرة.

بيوتنا ومدننا وحياتنا العامة، اليوم، مليئة بأدوات ووسائط تقنية، إلى حد الإفراط، وتغرق حياتنا بآلاف المنتجات من سلع وخدمات، لم تكن حتى في خيال أجدادنا، ولكننا لا نعرف عنها أكثر من أسمائها التجارية، بينما لا نعرف شيئًا عن المبدعين الذين كان لهم الفضل في اكتشافها وتطويرها؛ حتى أصبحت بهذا المستوى من التقدم بين أيدينا وفي خدمتنا.

تراودني هذه الأفكار كلما نظرت في آلة أو أداة، وتراودني أكثر كلما سمعت خبرًا عن اختراع جديد أو اكتشاف جديد، في أي مجال من المجالات، وأتذكر أننا لا نعلم شيئًا عن هؤلاء المُخترعين والمُكتشفين والمُطورين، بينما نحفظ أسماء المطربين والرياضيين، ونعرف أسماء رجال أعمال ووزراء ورؤساء، ونُغدِق عليهم من كرمنا، أو ينتزعونه رغمًا عنا، على الرغم من البون الشاسع بين المجموعتين: الأولى والثانية، من حيث مساهمة كل منها في خلق المنافع لعموم الناس وعلى أمد مستمر.

عندما اخترع الإنسان العجلة، وصنع العربة التي تجرها الحيوانات، رفع من قدرته على النقل عشرات المرات، واستطاع فعل أشياء كانت أعجوبة في زمنه. واختراع الطباعة من قبل الألماني “غوتنبرغ” منتصف القرن الخامس عشر، وسّعَ طباعة الكتب، وأكثر من عددها وخفض سعرها، فعمم المعرفة؛ مما رفع قدرة المجتمع. وآلة “جيمس واط” البخارية سنة 1769، دشنت عصر الثورة الصناعية الأولى، وكانت أساس اختراع القطار، الذي شكّل أحد قفزات بدايات القرن التاسع عشر، ويمكن أن نتصور قدرة رجل واحد، مقابل قدرة القطار؛ كي نُدرك قيمة هذا الاختراع. ثم جاء من طوروا آلة “جيمس واط”، ليدخل المحرك مناحي حياتنا الخاصة والعامة كافة، بحيث أصبح أساس تحريك حياتنا وحضارتنا، فكافة الآلات والأدوات على وجه الأرض تعمل بمحرك ميكانيكي أو كهربائي.

في عام 1876 صنع الألماني “نيكولاس أوتو”، أول محرك احتراق داخلي عملي في العالم. وعام 1893 ابتكر مواطنه الألماني الآخر “فيلهلم مايباخ” ما يسمى المُكربن “Carburetor” الذي كان القطعة الأخيرة اللازمة لصناعة عربة، لا تحتاج لحصان يجرها. فانطلقت صناعة السيارة التي غيرت حياتنا ومجتمعنا.

تصوروا حياتنا اليوم بدون سيارة، وتصوروا مدننا بدون الإسمنت وبدون الصلب، وفضل مهندس مثل “بيسمر” الألماني الذي كان له الفضل في تطوير إنتاج الصلب، وتصوروا حياتنا بدون الموبايل والإنترنت ومنتجات صناعة الإلكترونيات والبرمجيات والخدمات الهائلة التي تُسهم بها في مناحي حياتنا كافة، وكلها أشياء لم تكن موجودة قبل ربع قرن. وبما أنه لا قيمة لأي اختراع بدون الطاقة، تصوروا حياتنا بدونها، بأشكالها المختلفة، فبدون تطوير استخراج الفحم   الحجري أولًا، ثم اكتشاف النفط والغاز بعدها، ثم اختراع الكهرباء ثم الطاقة النووية، وأخيرًا الطاقات المتجددة. كيف كان سيسير كل شيء بدون الطاقة.

إذا كنا قد استعرضنا هنا الاختراعات الكبرى، فإن جهود المهندسين الصغار الذين يعملون على التطويرات الصغيرة، لا تقل أهمية، فهؤلاء جميعًا هم القوة الدافعة لمجتمعنا، وليس الرؤساء والوزراء ولا الأثرياء ولا رجال الأعمال؛ فأيهما أهم، هؤلاء المهندسون الذين يبحثون ويطورون، أم رجل أعمال امتلك ثروة؛ لأنه يحب المال أكثر من أي شي آخر، ولأنه يُجيد الاحتيال في نظام اقتصادي وسياسي، صُمّم للنهب في ظلال القوانين والأنظمة “الشرعية”؟ ومَنْ الأكثر فائدة للبشرية، الألمانيان “نيكولاس أوتو” و”فيلهلم مايباخ” أم رجل الأعمال الأميركي الشهير “فورد” الذي كوّن ثروة هائلة، وشهرة هائلة من صناعة السيارات؟

لكن هؤلاء المخترعين والمطورين والمكتشفين، لم ينالوا سوى النذر اليسير من عوائد إبداعاتهم، بينما يجني المنافع أصحاب المال الذين يشترون الاختراع والاكتشاف من أصحابه بثمن بخس، أو يوظفونهم للعمل لديهم بأجر لا يساوي شيئًا من عوائد إبداعاتهم التي يُحوّلها محبو المال إلى مصدرٍ عظيمٍ للثروة.

أتذكر هذه الأفكار وأنا أرى كل هذا الاحتفاء والاحتفال المًبالغ فيه بلاعب كرة قدم أو مغن أو مغنية، أو ما يناله رجال الأعمال من ثروات، بينما لا ينال المكتشفون والمخترعون والمطورون شيئًا من هذا، رغم البون الشاسع بين ما قدمه هؤلاء للبشرية جمعاء.

كثيرة هي أشكال الظلم التي نُدركها، ونصمت عنها، ولكن منها تلك التي لا نُدركها، ونسيان أولئك المبدعين وعدم تذكر فضلهم علينا، بل عدم معرفة التعويض غير العادل الذي نالوه عن مساهماتهم، لأن رجال الأعمال وأصحاب الشركات هم الذين حصلوا على المنافع الكبيرة، هو ظلم نضيفه لما لحق بهم من ظلم وإهمال ونسيان، وإذا كان من المستحيل -لأي منا اليوم- تذكّر هؤلاء المبدعين لكثرتهم، فالأهم أن نعمل لتحويل نظم الملكية والنظم الاقتصادية والتجارية والصناعية والمالية والثقافية، ومنظومة قيمنا، لتُنصِف هؤلاء المبدعين وتُنصف المجتمع، وتنصفنا أيضًا.

الأنظمة القائمة في العالم حتى اليوم، ورغم تطورها الإيجابي عبر العقود الماضية، مازالت لا تُنصِف المُنتجين، ومازالت تُكافئ الأكثر خداعًا وفسادًا وانتهازية، فكم من حفنة من الضباط قاموا بانقلاب عسكري في أكثر من بلد، وتمكّنوا من رقاب الناس ونهب البلاد، فقط لأنهم يملكون السلاح، ثم عاثوا في البلاد فسادًا، بينما بقي المُنتجون والمُبدعون يُعانون، وكم من فاسد نهب المال العام، وأصبح رجل أعمال يتحكم بمعيشة مئات أو آلاف أو ربما عشرات الآلاف من البشر، وكم من شخص لا يمتلك أي كفاءة أكثر من حب المال وإتقان جمعه، قد أصبح سيدًا في مجتمعه، يخدمه مُنتجون كثر ومُبدعون كثر.

كل هذا يقودنا لإعادة النظر بأنظمة المجتمع، وأنظمة الملكية الفردية والمشتركة والخاصة، وأنظمة توزيع الدخل بين الأجور والأرباح، وتنظيم سوق العمل، والأنظمة الضريبية، وأنظمة المال وأسواقه، وفي مجمل البنية الثقافية والقِيمية المتوارثة في المجتمع.

وللحديث بقية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق