مقالات الرأي

في مديح التراكم

إذا كانت مقولة “التراكم” من أهم المقولات الاقتصادية التي بُني عليها علم الاقتصاد، كون الادخار يؤدي إلى تراكم رأس المال الذي يشكل البنية الأساسية لاستثمار يزيد من فرص الربح، فإنّ الدول أو الشركات التي تحقّق تراكمًا كبيرًا، تكون فرصها في الحصول على الربح أوفر من فرصة غيرها؛ فنقل المقولة (التراكم) من الحيز الاقتصادي، إلى الحيز السياسي والاجتماعي والثقافي، يُصبح أمرًا بالغ الأهمية للدول التي تريد تحقيق انتقال من مرحلة إلى أخرى، أكثر تقدمًا، من حيث أنّ التراكم -هنا- يُعدّ رأسمالًا رمزيًا يفوق في أهميته، في كثير من الأحيان، التراكم الاقتصادي، ويوّظفه -أيضًا- في سياق أفضل وأكثر فائدة، ذلك؛ لأن الاقتصاد لا يعمل بشكل جيد، بعيدًا عن الفضاءات الثقافية والسياسية والاجتماعية، المتداخلة معه.

 

إنّ تأمّل الأمر الخاص بسورية، منذ بداية تكوّنها عام 1920، إلى تلك اللحظة، يوضح لنا أنّ البلاد لم تحقق تراكمًا يُعتدّ به في أيّ مجال من مجالاتها؛ فكلما وصل التراكم ذروة ما، يعود إلى نقطة الصفر، وكأنّ كلّ مراكماتنا -على ضآلتها- تذهب هباءًا منثورًا، وليس أدل على تلك المقولة، من تأمّل اللحظة التي ترقد فيها سورية اليوم، من حيث تفكك الاجتماع السوري إلى لحظة مماثلة لتلك التي كانت في بداية القرن الماضي.

 

بعد هزيمة الثورة السورية الكبرى، 1925، على يد المستعمر الفرنسي، وعودة الحياة السياسية إلى الداخل السوري، بدأت القوى السورية المدنية تحقق تراكمًا سياسيًا على صعيد الأحزاب التي بدأت تنشط بقوة، وتتصاعد أنشطتها ومظاهراتها؛ لتشكل ضغطًا على المحتل، بلغ ذروته في الإضراب الستيني، وإجبار فرنسا على توقيع اتفاقية 1936، والتي تُوّجت برحيل الانتداب الفرنسي عام 1946؛ لتبدأ مرحلة الاستقلال، وبناء الجمهورية السورية التي كان من المفترض أن تتابع تطوّرها عبر استثمار التراكم المكوَّن؛ لبدء المرحلة الثانية من الاهتمام بالجانب الاقتصادي الاجتماعي، إلا أنّ محدودية وعي الطبقة الحاكمة بأهمية هذا المسار؛ لتوسيع المشاركة السياسة نحو الهوامش (المنطقة الشرقية، السويداء، الساحل السوري) التي كانت مقصاة من المشاركة في الحكم لصالح تمركزه في سورية المفيدة آنذاك (دمشق، حلب، حمص، حماة)، إضافة إلى احتلال فلسطين، وتساقط آثار “ثورة أكتوبر” السوفياتية في الداخل السوري، أدى إلى أنّ تتصاعد الأحزاب الراديكالية “الثورية”، ذات الثقافة الانقلابية، والبعيدة عن روح الديمقراطية الدستورية، والتي وصلت السلطة مع الوحدة السورية- المصرية؛ لتطيح سورية بكل تراكمها السياسي الديمقراطي، المحدود نسبيًا، مستبدلة الشرعية الدستورية بالشرعية الثورية، التي أولت الشق الاقتصادي الاجتماعي أولوية على السياسي؛ لتبدأ سورية مرحلة ثانية من الصفر، بعد أنّ تم وأد الحياة السياسية فيها، وهي المرحلة التي تُوّجت بوصول يسار البعث إلى السلطة عام 1963، ومن ثم يمينه بقيادة الأسد؛ إذ حققت سنوات حكمه تراكمًا في المجال الاقتصادي الاجتماعي (إصلاح زراعي، توسيع التعليم ومجانيته…) مقابل حرق كلّ التراكم في المجال السياسي.

 

كان يمكن للتراكم الذي حققته فترة البعث (بشقيها يسار البعث “صلاح جديد”، ويمينه “الأسد الأب”) أن يكون مثمرًا، لولا أمرين اثنين: التوريث الذي قضى على آخر ما تبقى من معالم الجمهورية، وتضييع فرصة الانفتاح على الداخل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ حيث يوصف عقد التسعينيات في سورية، بأنّه العقد الضائع على كل الصعد، لتدخل سورية حقبة ثالثة، كان يمكن أن تكون مثمرة، لو استجاب النظام للتراكم الذي تحقّق من باب حركة ربيع دمشق طوال العقد الأخير.

 

حركة ربيع دمشق شكّلت تراكمًا مثمرًا لسنوات الاستبداد السوري الطويل، حيث حقّقت المعارضة نقلة “نوعية” (ولو على مستوى السطح)، عبر الانتقال من الفكر الثوري إلى الفكر الإصلاحي، بكل مقولاته في التداول السلمي للسلطة وإطلاق الحريات، وهي الخطوة التي لم يستجب لها نظام الابن، الذي بدّد كل التراكم الذي بنته الفترة السابقة في المجال الاقتصادي الاجتماعي لصالح “اللبرلة” التي بدأت تطيح بكل شيء، مترافقة -هذه المرة- مع الاستبداد العضوض الذي أغلق الدائرة؛ ما فجر الثورة السورية عام 2011، التي كشف مسارها الطويل عفن نظام الاستبداد، وعمّق تخريبه المجتمع السوري، وضعف تراكم المعارضة التي لم تعرف كيف تستثمر التراكم المتاح؛ فضاعت بين شدة عنف النظام وتكالب الدول، مبدّدة ما كان يمكن أن يشكل تراكمًا يُعتدّ به؛ إذ تبيّنت سهولة الانزلاق من الشرعية الدستورية (الرؤية الإصلاحية والتغيير السلمي الآمن) التي كانت تنادي بها، إلى الشرعية الثورية التي ضاعت بين أصولية زاحفة واستثمار القوى الكبرى؛ لتدخل سورية في مرحلة تدمير كل التراكم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فنحن اليوم أمام لحظة الصفر، فسورية تدمرت اقتصاديًا، ونسيجها الاجتماعي يعاني جروحًا غير سهلة الرتق، والساحة السياسية تكاد تكون خالية من قوى قادرة على الإمساك بلحظة، تليق بسورية وبنضالها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق