عندما تنظر إلى مجتمعاتنا في سقوطها الحضاري الذي وصلت إليه اليوم من خلال قوله تعالى:
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. (آل عمران:110) ترى أن هناك خللًا بين الخطاب والمخاطب؟
حيث نلاحظ تراجعًا حضاريًا كبيرًا لهذه المجتمعات؛ وعجزًا واضحًا في معايشة الحداثة ومعاشرة المعاصرة وإدارة الأزمة! وإفلاسًا في الإبداع، وهزيمة في كل معارك الحياة؟ فقراءة قانون حركة التاريخ والسننية الإلهية بتدبر تقول: إن المجتمعات ترتقي حضاريًا بامتلاكها شروط النهضة؛ فمَنْ يمتلك الشروط ينهض؛ ومن يفقدها ينحط؛ ولا يدخل الإيمان والكفر في هذه المعادلة، بدليل واقعنا؛ فمجتمعات وثنية (في منطِقِنا) كالصين والهند، حققت أعلى معدلات التنمية عالميًا، ومجتمعات غربية، ارتقت أعلى سلم الحضارة والتقدم؟
وهذا ما يدفعنا إلى إعادة قراءة النص الديني؛ بصفتنا مجتمعات “ثيولوجية”، تتحرك من خلال النص المقدس، ولكن يجب أن تكون هذه القراءة قراءة غير “عِضِينية”، ولا ظاهرية ولا مقيدة بالمعرفة التراثية؛ قراءة معاصرة من خلال ثالوث مهم هو العقل والنص والواقع، وبمنظار إنساني. لو فعلنا ذلك؛ لوجدنا أن تفسيرًا آخر يؤكد مصداقية النص؛ يذهب عكس ما ذهب إليه المفسرون القدامى، فمثلًا قوله تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. (الأنبياء:105).
من خلال القراءة التي ندعو إليها بثالوثها الواقعي، نجد أن الصالحين ليسوا العباد الشعائريين، إنما هم كل من يقدم خيرًا للبشرية جمعاء؛ كالإبداع التكنولوجي، والاكتشافات العلمية، وعلاج الأمراض المستعصية، والطرائق الحديثة في قيادة الدولة والمجتمع؛ والمفكرين الذي يعملون على ايجاد حلول لأزمات البشرية؛ لذلك، تخلد ذكرُهم عند الأمم كلها.
أما آية: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. (الكهف:46).
فنحن نُصِرُّ على إفراغها من محتواها الواسع؛ لتصغيرها وتقييدها بقيد تراثي! إذ أن التراثيين فسروها بقولهم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؟ ونسبوا القول للنبي الكريم محمد؛ فإن قصدوا المعنى القولي ف،حسب دون عمل؛ فقد صغروا ما كبّر الله.
أما قراءتها من خلال المعاصرة والفعل الإنساني؛ فسنجد بأنها الاختراعات التي قدمها المبدعون للبشرية كلها؛ هي الكهرباء التي أبدعها أديسون؛ والمورفين في العمليات الجراحية، وحبة الإسبرين التي يحتاجها الملايين يوميًا، وإبداعات الطب في عمليات القلب، والكتب التي تنير العقل؛ ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، واختراع ينفع الانسان، والمحبة التي تزرعها بين الناس؛ والقرآن الكريم ردّ على من قال: إن غير المؤمن بالإسلام لا قيمة لعمله الإنساني؛ حيث قال:
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. (آل عمران:115).
إن الصالحات أشياء كثيرة، وليست الذكر الديني فحسب، ولكننا صغّرّنا ما كبر الله، ولذلك يرث الأرضَ اليوم الغربُ من خلال تقدمه العلمي والتكنولوجي والحقوقي والاقتصادي؛ فهؤلاء هم الصالحون لعمارتها؛ هذا قانون الله وسنته، فالآخرة دار ثواب وعقاب لمن آمن أو كفر! أما الدنيا فهناك سُننية تحكمها، لا تخرق لمجتمع مؤمن؛ تخلف عن امتلاك شروط الحضارة في كل شيء؛ ولذلك، جاء قوله تعالى:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. (هود:117).
اليوم نحن نهلك؛ لأننا لا نمتلك الحد الأدنى للإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ أما هم، فقد امتلكوا كل شروط النهضة، بمعناها غير الشعائري؛ وهذا يدعونا إلى تدبر الآية: (لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) فما داموا مصلحين مبدعين عادلين فيما بينهم؛ لن يهلكهم الله سبحانه؛ وهنا نتذكر حديثًا رواه مسلم عن المستورد القرشي، يصف أسباب نهضة الغرب، مخاطبًا عَمْرو بْن الْعَاصِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ (الغرب اليوم) أَكْثَرُ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ! قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ (امتصاص الصدمة) وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ (الاستفادة من الدرس) وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ (القدرة على النهضة وعدم القبول بالانكسار) وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيتيم وضَعِيفٍ (العدالة الاجتماعية فيما بينهم) وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. (الديمقراطية).
هذا يعني على الرغم من العلل التي يعاني منها ذاك المجتمع؛ إلا أنه يعيش بشروط عصره؛ ولا يكرر تجارب وأخطاء الآخرين، ويمتلك صلاحية الريادة وقيادة المجتمعات الإنسانية. أما نحن لا نزال نجْتَرُ معاركنا التاريخية؛ لنستحضرها في عصر تختلف شروطه كليًا عن عصرهم. ولهذا هم تقدموا؛ ونحن تأخرنا.
إن قوانين الاجتماع لا تُخرق، وقانون حركة التاريخ وسنن الله في خلقه لا تتبدل، ولا تحابي مجتمعًا على حساب آخر، ولكل عصر شروطه وأزماته ومصطلحاته. إن مشكلة مجتمعنا الحقيقية؛ ليست في عالَم الغيب؛ إنما في عالم الشَهادة.
وعالم الشهادة اليوم تتمثل أزماته -بالنسبة لنا- بمحددات واضحة، الاستبداد؛ كيف ننتهي منه؟ وليس في الوصول إلى السلطة لاستبدال استبداد علماني طغياني باستبداد ديني متوحش؛ فللمجتمع كل الحق في اختيار شكل وطريقة ومن يحكمه؛ كما أنه يتوق للحرية أكثر من توقه للتدين؛ والعدالة الاجتماعية حلمه الذي يستحق التحقيق؛ وكل تقدم في مفهوم الإيمان هو تقدم مغشوش؛ ما لم يحقق للمجتمع هذه المتطلبات المعاصرة والعاجلة.
لذا يجب أن نسارع في مراجعات حقيقية لمفاهيم تديننا؛ وتوظيفها لخدمة المجتمع؛ فالدين لخدمة الإنسان وليس العكس.
كذلك على العلمانيين والقوميين وغيرهم، أن ينجزوا مراجعاتهم، وأن ينقدوا تجاربهم؛ كما ننقدها كإسلاميين.
إن المقاربة الصائبة أن نقترب من عصرنا ومفاهيمه وأدواته، ونخرج من مساكنة التاريخ، أو الاستلاب للغرب؛ فالتقليد هو إعلان غير مباشر للفشل في الإبداع، كما أن شرعية أي تيار في قيادة المجتمع، ليست الشرعية التاريخية ولا التَغَلُبية؛ إنما شرعية الانجاز؛ ومرهونة بحل مشكلات المجتمع؛ والأخذ بيده نحو تنمية، تؤسس لعدالة الاجتماعية.
وأعتقد أننا كمجتمع بحاجة لطاقات وقدرات الجميع، على اختلاف تلاوينهم وانتماءاتهم؛ فالوطن لكل أبنائه؛ لذلك، لابد من ميثاق شرف فيما بيننا، ينجز عقدًا اجتماعيًا متوافقًا عليه، يجعل التشاركية في الفعل عنوانه، والقطيعة خلف ظهره؛ لنقدم خارطة طريق، تُخرج يوسف من جب عميق، بعد أن تخلى عنه أخوته.
وهذا يحتاج إلى تقارب فيما بيننا؛ وقبول بعضنا لبعض، من خلال مشتركات يتم التوافق عليها.