قضايا المجتمع

الموت السوري من الساحات إلى الفيسبوك والتويتر

في موكب التشييع الصغير في أقصى الجنوب السوري، كنا عشرات، نحدّق في وجوه بعضنا بعضًا، ترتجف أيدي حملة النعش، فيسارع من به قوة لحمله، ترتجف أرجلنا دون حمولات ثقيلة، ننتظر -في كل لحظة- قصفًا مدفعيًا علينا، طالما صدر القرار، وأُفهم علنا “يُمنع الترحم على الإرهابيين”، هكذا كان يتوجب أن نترك أجسادهم للتعفن والتفسخ، وأن نُعلن براءتنا منهم، ونسبهم بما يليق.

كانت آخر أيام التشييع الجُمعية في ساحة المسجد -قبل انهياره- لعائلة حمصية، ساقها حصار حمص مئات الكيلومترات ليصيبها القناص قبل مغادرة الحدود، سقطت الأم وأبناؤها الثلاثة، صاح اليافعون بمكبرات صوت المسجد ذاته، على الرغم من المنع، تجمع الناس حملوهم على راحات أياديهم، غنوا لهم ككل (الشهداء) “حمصيه تنادي الفزعة يا مسند حملنا”، أبكت العائلة حتى الرماديين في البلدة.

ربما بكينا حمص العاصمة، الحلم، وربما عرفنا أي مصير كالح ينتظرنا، أو ربما سنبكي مطولًا موتنا البارد في طرقات العبور، أو في مخيمات اللجوء، بلا مشهد عزاء اعتدناه، وتوارثناه لعقود طويلة، فحتى الموت له دفء خاص هناك.

تغيرت طقوس الموت إذن، لا تشييع ولا خيم عزاء، ولا قراءة تدفئ أرواحهم، كانت مغامرة التشييع أشبه بفعل الانتحار الجماعي، تشبه تجمعات أبناء البلدة الثائرين في ساحاتهم المكشوفة، إلا من إيمان بغد أفضل، وتحول فعل التشييع ذاته لقتلى الأمس إلى مصيدة، يُقتل فيها مشيعي اليوم. لينتهي فعل التشييع إذن، وليكن في الحدود الأدنى حضورًا، ولندفن قتلانا في باحات بيوتنا أو مخيماتنا الطارئة.

الأزرق يجمع موتى السوريين

في كل صباح، أو ربما بين ساعة وأخرى، يمكن الولوج إلى الأزرق السوري (الفيسبوك)، لتقديم واجب العزاء لمن نفقدهم كل يوم، فلا تتسع الأوطان لتقديم العزاء بما يليق بهم، لتحل غرف التواصل الاجتماعي كفضاء افتراضي، يخفف من حجم المصاب، ويمنح رواده الكثر فرصة التعزية، وإن كان مشوبًا بأجواء باردة.

“لا كلمات تفيكم حقكم أيها الكرام، أبناء الكرام، رابعكم ارتقى فأوجع، لتكونوا قيامة البلد أيها الصابر وأمك وأباك”، تلك كلمات الصحافي علي عيد، معزيًا زميله، غسان ياسين، بارتقاء أخيه الرابع في سورية، فيما يطل الصحافي محمد زيد مستو، عبر صفحته في (الفيسبوك)، حاملًا بيديه طفلته الجديدة، معزيًا إياها ونفسه بالمقبلة إلى الحياة، وقد سبقتها أشواق جدها وعمها الشهيدين؛ ليتجدد العزاء “فيسبوكيًا”، ويتلقى التهاني بالمولودة الجديدة.

قد لا تحمل التقاليد الجديدة في العالم الافتراضي، رضا القادرين على ولوجها، لكنها بدت الخيار المتاح أمام الجميع، بعد أن اعتادوا -لعقود- على استقبال مُعزّينهم في بيوت عامرة، أو خيم كبيرة، يملؤها صوت قراءة بعض سور القرآن، أو حضور لشيخ الحي أو القرية، وحوله العشرات، وفي أريافهم كانت الولائم تُقدّم؛ للتخفيف من انشغال أهل الفقيد بمصابهم، ولم تقتصر التقاليد السورية في العزاء على أيام محددة في الخيم، تمتد لثلاثة أو أربعة أيام، فللأصدقاء والأهل تواصل لا ينقطع ربما لشهور.

في تفاصيل سردها ووجعها، تعزي الأم الصحافية، نهى شعبان، نفسها، ناقلة خبر استشهاد نجلها المهندس، تاركًا ذكريات الهندسة في تفاصيل الثورة السورية ويومياتها، فكتبت المتعالية عن جرحها النازف على الفيس بوك “خبر استشهادك رح يحتل كل صفحاتي لفترة طويلة، لأنك تصدّرت كل الأخبار عندي يا حبيبي، وصرت أنت الخبر المهم والعاجل في حياتي”، فيما توالت التبريكات بخبر استشهاده من كل حدب وصوب، وتوحي الأماكن والتعليقات أن الضيق بالجغرافيا لا يُحاصر السوريين؛ لتأتي التبريكات من لندن إلى مصر، وصولًا إلى بيروت، فريف دمشق، حيث ووري الفقيد، فثمة عائلة واحدة وإن ضيعتها الحروب.

(فيسبوك) موقّت وبلدان اللجوء

ثمة أسئلة موجعة تحاصر السوريين، ممن خرجوا، لا تقل أهمية عمن تبقوا هناك، خصوصًا لجهة الموت الماضي في طريقهم، وحرمان من تنفيذ رغبة الموتى في الدفن في مدنهم وأحيائهم التي أحبوها.

عشرة أشخاص، أو ربما أكثر، وقصيدة شعرية موجعة، ألقيت في تشييع جثمان علي الزرقان في باريس، انفض الجمع الصغير، وبقيت الأسئلة تبكي حالها؛ ففي وصية المتوفى، وبعد رحلة تهجير امتدت لثلاثين عامًا، أن يُدفن في مدينته الحارّة، لكن الطيران يُغطّي سماء المدينة، ومقبرتها لم تعد تتسع لأكثر من شهداء الداخل، إضافة إلى أن الطريق من باريس إلى عمان وصولًا إلى درعا، مليئة بالمخاطر، وقد يصطاد عسكر النظام عشرات الضحايا الجدد، وهو ما تطابق أيضًا مع تشييع تيسير المسالمة، الواصل حديثًا إلى باريس من معتقلات النظام، ورحلة اللجوء في عمان، فيما تغصّ مقابر مدينة الرمثا الأردنية وعينتاب التركية، ومثلها بلدات لبنان بآلاف القصص المتشابهة.

حصار الجغرافيا من النظام السوري، ومدافعه وصواريخه، فرض خيارات جديدة على السوريين، لم تكن حتى في أشد كوابيسهم سوادًا، ويقول الصحافي، محمد حمادي، المقيم في باريس: “إن ما يحدث يحمل من الخطورة كثير، ويضع المجتمع الدولي أمام انكشاف عريه الأخلاقي، في حالة غير مسبوقة تاريخيًا، فأمام عشرات الضحايا يوميًا في المدن السورية، لا يجد ذووهم فرصة لدفنهم أو حتى قبول التعازي بهم”، مضيفًا “ما يحدث أمر غير مسبوق والمخاوف من تبعاته مستقبلًا”.

لكنه يرى أن انتصار الثورة السورية كفيلًا بإعادة الأمور إلى نصابها، إذ “من المؤكد أنه سيتم نقل رفات السوريين إلى مدنهم، وهذا أقل ما يمكن في حدود الحياة الجديدة، إضافة إلى البعد السياسي، غالبًا ما تعمل المجتمعات، نصبًا تذكارية لأبنائها، بعد أن تضع الحروب تفاصيلها الثقيلة”.

في صفحات العزاء الـ (فيسبوكية)، أبعد من التعزية لأفراد وتجسيد أوجاعهم، إذ يجد المتصفح قصة مدينة هدمها النظام، ولم يتمكن أبناؤها من إلقاء النظرات الأخيرة، ولا سيما أن خروجهم جاء في ظلمة الليل، وبرعاية دولية، لا تسمح بكثير من ترف الوداع بين ساكن ومغادر قسرًا، فيما صور الشهداء باتت تحضنها عشرات الآلاف من صفحات التواصل الاجتماعي، وهو ما فرض على منشئيها القبول بالأمر الواقع، بتقبل التعازي عبر هذه الصفحات، ولو إلى حين، قد يقصر أو يطول.

تبدو كلمات العزاء، مُيسّرة بسهولة، لدرجة أن المعزي لن يبحث كثيرًا لتقديمها، في محاولة لإظهار التضامن، أو تضميد الجرح المتقيح، وهو ما وفّرته أيضًا مواقع التواصل المرادفة، وتختلف العبارات بحسب رغبة المدون بين الطويلة والموعظة، والتذكير بالموت والحياة، وبعض الآيات القرآنية، فيما يكتفي بعض آخر بما سهل وتيسر واختصر: “عظم الله أجركم، وأسبغ الله عليه رحمته”، بينما يجدها بعضهم لحظة لم تنفصل من حياة السوريين التي خبروها، منذ أعلنوا رفضهم لنظام يحكمهم بالحديد والنار، فيذكّرون بما سبق، ويلحون درءًا لخطورة النسيان.

يرى بعضهم أن لا غضاضة من بعض الكلام، كثيره أو قليله، ينقل ما تعجّ به قلوب السوريين من ألم الفراق، وحسرة على البلاد والعباد، والدعاء بالفرج والنصر القريب

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق