مقالات الرأي

بعض من دروس ثورات عصرنا

نهاية شهر أيلول/ سبتمبر عام 1969، توفي القائد الفيتنامي “هوشي منه”، وقد رأت القيادة السياسية السورية في حينه، حيث كان شعبنا آنذاك يرتبط بعلاقات تضامنية كفاحية وثيقة مع الشعب الفيتنامي الصديق، ضرورة المشاركة في حفل التشييع، إلى جانب الوفود الدولية الأخرى التي تجاوز عددها الستين على ما أذكر.

تشكّل الوفد السوري من ثلاثة أعضاء، وقد عهدت إليّ رئاسة الوفد المذكور؛ غادرنا دمشق إلى هانوي عن طريق القاهرة، وبمحض الصدفة التقينا في القاهرة مع الوفدين الجزائري والسوداني، على الطائرة نفسها التي كان من المفترض أن تقلّنا إلى “بنوم بنه” عاصمة كمبوديا، ومن هناك نتابع سفرنا إلى هانوي بواسطة الشركة الكمبودية، حيث لا توجد خطوط أخرى للطيران، تصل إلى هانوي من هناك غير هذه الشركة.

بعد وصولنا إلى بنوم بنه، كانت المفاجأة لنا عندما أُخبرنا أن كمبوديا لا تمتلك سوى ثلاث طائرات، الأولى استقلها الأمير نوردوم سيهانوك، رئيس الدولة، وذهب للمشاركة في حفل التشييع الذي سيجري في اليوم التالي، والثانية كان قد أستاجرها الوفد اليوغوسلافي المشارك، أما الثالثة فكانت مُعطّلة، وتربض على أرض المطار كي يتم إصلاحها.

هكذا تقطعت بنا السبل، وبقينا نحن الوفود الثلاثة مدة ثلاثة أيام في الفندق، حتى يمكن لنا السفر إلى هانوي بعد عودة الطائرتين المذكورتين، ولم نستطع المشاركة في حفل التشييع، حيث وصلنا هانوي بعد عدة أيام من مغادرة كل الوفود المشاركة تقريبَا، وكما يًقال، رُبّ ضارة نافعة، فقد استقبلنا الرفاق الفيتناميون بكل ود وترحاب، واستجابوا لطلبنا عندما أخبرناهم أننا نرغب بالإقامة مدة أسبوع على الأقل، لأن شعبنا مهتم أن ننقل له صورة واقعية عن مسار الثورة الفيتنامية، ورمزيتها بالنسبة لكل الشعوب المتطلعة نحو الحرية والاستقلال، حيث يتابع أخبارها يوميًا بكل التأييد والاهتمام والتضامن المطلق.

وضع لنا الفيتناميون برنامجًا حافلًا باللقاءات مع المسؤولين، وبزيارة للأماكن التي طلبناها، واستخلصنا دروسًا من لقاءاتنا واجتماعاتنا مع القادة الفيتناميين حول تجربتهم الثورية الرائدة، التي تُعد بلا شك واحدة من أعظم ثورات التحرر الوطني في القرن العشرين، تلك الثورة التي استطاعت دحر وهزيمة أعتى الإمبرياليات في ذلك القرن، ممثلتين بالإمبريالية الفرنسية ومن ثم الأميركية.

أُتيح لنا خلال هذه الزيارة، كما أسلفنا، اللقاء مع كبار المسؤولين في الحزب والدولة، أذكر منهم “فام فان دونغ” رئيس الوزراء، والمرشح لخلافة هوشي منه، و”ترونغ شينه” رئيس مجلس الشعب، والجنرال “فونغوين جياب” وزير الدفاع وبطل حرب التحرير الشعبية، و”لي دوان” السكرتير العام للحزب الشيوعي الفيتنامي وآخرين، ومازلت أذكر أن اجتماعنا مع لي دوان الذي استمر حوالى الساعتين ونصف الساعة، كان أغنى تلك اللقاءات وأفيدها، بالنظر لما دار بيننا من استعراض العديد من المسائل ذات الاهتمام المشترك، ولما طرحناه من أسئلة حول تجربتهم الثورية والتي أجاب عليها بكل وضوح وموضوعية، وبما يسمح به المجال هنا، سأستعرض بعضًا من الدروس والمواقف التي ميزت مسار تلك الثورة، وكانت عونًا لها في انتصارها النهائي والوصول إلى غايتها المنشودة.

سألت لي دوان عن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربتهم الكفاحية الطويلة، وما إذا كانت هناك ثمة ملاحظات جدّية ينبغي أن نأخذها في الحسبان، نحن مختلف فصائل حركة التحرر الوطني العربية، وتطرقنا إلى موقفهم من تفاقم الخلاف العقائدي والسياسي داخل القطبين الكبيرين في المعسكر الاشتراكي، الاتحاد السوفياتي والصين، وكيف انعكس على حجم أو نوعية دعم هذين القطبين للثورة الفيتنامية.

هنا تكثيف موضوعي لما عرضه من دروس ذات شأن، أمكن استخلاصها من تجربتهم، قد تُلقي بعض الضوء على أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى إخفاق ثورات ما عُرف بالربيع العربي، وخاصة الثورة السورية، التي دُفعت بعيدًا عن مسارها الشعبي السلمي المستقل الإرادة، الذي انطلقت على أساسه، وحيث أدت -بعد ذلك- مختلف التدخلات والعوامل الذاتية والموضوعية، التي أحاقت بها، إلى المحنة الراهنة.

قال دوان: إن أول وأهم الدروس التي استخلصناها، هو أن أي ثورة تنفجر من أجل قضية عادلة، وتتبنى أهدافًا مُحقّة ومشروعة، لا يمكنها أن تحقق الانتصار لمجرد كونها كذلك؛ فالعملية الثورية في عصرنا عملية مُعقّدة، تؤثر وتتأثر بالأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، وتتطلب تضحيات جسيمة؛ لذا، فإن ثورة القضية العادلة والأهداف المشروعة، يجب أن تمتلك الرؤية الاستراتيجية الصحيحة، التي ترسم المحطات والمهمات الانتقالية والمرحلية في مسار الثورة؛ إذ إن منطق الثورات الناجحة، لا يتفق ومفهوم كل شيء أو لا شيء، ولابد لهذه الاستراتيجية من برنامج عملن يحدد المهمات المرحلية الانتقالية التي بإنجازها واحدة تلو أخرى تخلق أوضاعًا جديدة، وتُوفّر إمكانات أكبر لمواصلة إنجاز تلك المهمات المرحلية، وصولًا إلى تحقيق الأهداف الكبرى والأساسية للثورة، وأضاف: إن خطة الطريق الواضحة ينبغي أن تشمل برنامج العمل التنفيذي المحدد، وانتهاج الأسلوب الملائم في الممارسة والتنفيذ، والتسلّح بخطاب عقلاني مسؤول، خطاب صريح وواضح، بعيد عن الديماغوجية والشعبوية، في مخاطبة الشعب والرأي العام العالمي، وقال: إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة، إنما تُجسّد واقعيًا هوية الثورة وروحها، وسمات شخصيتها المميزة، والتي تجعلها جديرة بدعم وتأييد قوى الحرية والعدالة في العالم أجمع.

أما الدرس الثاني، وفقًا لدوان، فهو أن الثورة، بجميع قوى الشعب أصحاب المصلحة فيها، يجب أن تستند إلى مشروع موحّد؛ من أجل إنجاز أهداف التحرر الوطني، ولا يمكن لأي ثورة أن تنجح في تحقيق أهدافها، إذا تبنّت قواها مشاريع متعددة أو متناقضة، كما لا يمكن لها أن تقهر التحديات والصعوبات التي تعترضها، إلا بوحدة الشعب الوطنية، وإلا، فإنها ستتحول إلى حرب، أو حروب أهلية مُدمّرة للنسيج الوطني، وممزقة لوحدة البلاد الجغرافية والسياسية.

وقال: إن أول مستلزمات استراتيجية حرب الشعب الطويلة الأمد، أن تستند إلى الوحدة الوطنية الصلبة، بكون أن الشعب هو أداة وغاية أي ثورة تحررية واجتماعية، ويجب أن يكون المنطلق والقاعدة للكفاح، قبل دعم الدول الشقيقة والصديقة، وأوضح في هذا المجال، أن هذه الوحدة الوطنية تتبلور على أساس مشروع الثورة الواحد، وتؤطرها جهة وطنية عريضة، وتضم الأحزاب المختلفة، والهيئات والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك رجال الدين.

وعن موقفهم من سياسة التعايش السلمي، والتي أخذت تُطرح -آنذاك- بقوة على صعيد العلاقات الدولية، وللتخفيف من حدة التوترات الناشئة في مناخ العلاقات الدولية، وخاصة بين المعسكرين الشرقي (السوفياتي) والغربي (الأميركي)، والتي كنا نرى فيها نحن في سورية، ومعظم فصائل حركة التحرر العربية، نتيجة وعي قاصر لطبيعة العلاقات والمصالح الدولية، وأنها سياسة قوامها التواطؤ والتوافق والهيمنة التي يمارسها الجباران ضد مصالح الشعوب وحقوقها المشروعة، فأجاب دوان: إن بلاده تؤيد سياسة التعايش السلمي بين المعسكرين، لإبعاد شبح الحروب والمغامرات العدوانية، وتوطيد مناخ الآمن والسلم والاستقرار في العالم، لكنهم في الوقت نفسه، يُعارضون هذه السياسة إذا استهدفت الوقوف في وجه إرادة الشعوب المكافحة من أجل الحرية والاستقلال.

غادرنا هانوي بعد انتهاء زيارتنا عن طريق بكين، التي مكثنا فيها ثلاثة أيام، وفي طريق العودة كنت أفكر في أهمية التقرير الذي سأقدمه لقيادة الحزب، وأهمية الدروس والخلاصات التي سيتضمنها في تسديد رؤيتنا آنذاك، وتصحيح ما يعترض مسار عملنا من سلبيات وثغرات، ولم تمر سوى أيام معدودات حتى أنجزت التقرير المُنتظر، الذي تجاوزت صفحاته الخمسين من القطع الكبير، وجرى توزيعه على أعضاء قيادة الحزب، وعلى العديد من القيادات والكوادر المتقدمة للقوى والأحزاب الأخرى، وكان الهدف الرئيس من وراء هذا التقرير، أن يكون خطوة جريئة في عملية التفاعل المتبادل، بين خبرات كل من الثورة الفيتنامية وفصائل حركة التحرر العربية، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، إذ لم يمض عام واحد على تلك الزيارة، إلا وشهدت المنطقة العربية تحولات درامية في أوضاعها، وأصيبت حركة التحرر العربية بتراجعات خطِرة في مسارها، تمثلت برحيل عبد الناصر، والانقلاب الذي قاده السادات تحت اسم ثورة أيار/ مايو التصحيحية؛ لتصفية نظامه الوطني، وبالانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضد الحزب والنظام الوطني، وأسماه بدوره الحركة التصحيحية، لتبدأ مرحلة أخرى في تاريخ سورية الحديث، مرحلة ارتداد وتراجع عن كل ما سبقها من مراحل، منذ أن نالت سورية استقلالها الوطني، مرحلة سماتها الاستبداد والتخلف والفساد، وتخريب بنية المجتمع والإنسان، مرحلة امتدت أكثر من أربعة عقود، وكانت السبب الرئيس في وصول الحالة إلى الأوضاع الكارثية التي تعيشها سورية اليوم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق