نعيش اليوم عالما متغيرًا قد يكون منفتحًا على تحولات كثيرة ومهمة. ولعل انشغالنا بقضايانا الساخنة وإشكالياتنا الراهنة والملحة، يحرمنا من الوقت والمساحة الكافيتين لمناقشة ما يحدث حولنا، وتأمله ضمن نطاق يكون فيه الشرق الأوسط مجرد جزء من أجزاء أخرى في خارطة أوسع.
ولعل ما يجعل السؤال مهمًا، وإن كان همّنا المباشر أشد وطأةً وإلحاحًا، هي الأحداث والتحولات التي تجري في أوروبا؛ فبحكم القرب الجغرافي، وتاريخ من الحروب المتبادلة بين الأمم الأوروبية والمجال العربي، إضافة إلى عوامل تتعلق بالتقدم الحضاري والسياسي للأولى، كما الثقل الاقتصادي والتفوق العسكري والتكنولوجي، فإن التأثّر المتبادل بين العالمين، سلبًا أو إيجابًا، شأن مهم ومؤثر في فضاءات متعددة ومتنوعة. وليست مسألة الهجرة التي تكتسح القارة على شكل موجات من اللاجئين، أو الإرهاب الذي يضربها، أو تدخلها العسكري على شكل تحالفات تضرب في سورية والعراق وليبيا، إلا استمرارًا لتفاعل تاريخي طبيعي دائم ومستمر؛ وبالتالي، فإننا معنيون -بشكل أو بآخر- بما يحدث فيها، أي أوروبا، فضلًا عن أهميتها العالمية التي ليست موضع شك.
تثير الاعتداءات، وعلى وجه الخصوص تلك التي استهدفت فرنسا في الفترة الأخيرة، الكثير من الأسئلة، وليس مرد ذلك إلى طبيعتها، بل إلى الطريقة التي سعى فيها الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى احتواء الأزمة. فأن يجري شكل من المصالحات، عبر جمع ممثلين من المسلمين والمسيحيين الكاثوليك؛ لتنفيس التوتر بعد حادثة ذبح الكاهن الفرنسي، هو أمر غريب في فرنسا، ويدفعنا ذلك إلى التساؤل عن إمكانية عودة الدين إلى تبوّء دور بارز في الحياة العامة والنقاش السياسي، وذلك في الدولة نفسها التي حملت لواء فصل الدين عن الدولة، قبل ما يزيد على قرنين من الآن، وإذا كان اعتداء سابق على متجر يهودي، قد دفع أيضًا إلى ترتيب مصالحات بين مسلمين ويهود في البلد نفسه؛ فيبدو أننا أمام نمط من تهدئة الخواطر على الطريقة اللبنانية بهدف “الحفاظ على السلم الأهلي”، أو على طريقة معالجة النظام المصري للحوادث المتكررة بين المسلمين والأقباط.
لم يكن الأمر ليكون مستغربًا لو حصل ذلك في الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة السياق التاريخي الذي تطورت فيه علمانية البلدين، كل على حدة؛ إذ يعدّ بعض الباحثين العلمانية الأوروبية نتاج صراع ضد الدين، ممثلًا بالكنيسة الكاثوليكية وممارساتها القمعية والتسلطية في القرون الوسطى، في حين تقابلها العلمانية الأميركية التي نتجت عن صراع من أجل حرية الدين، خاضته الطوائف المضطهدة في أوروبا، والتي وجدت في الأرض الجديدة ملاذًا آمنًا، وهو ما نتج عنه المحافظة على حضور الإيمان والمعتقد في حياة الأفراد في الأخيرة، وتضاؤله إلى حد إهمال تأثيره في الأولى، ومن جهة أخرى، تُعدّ العلمانية الفرنسية من العلمانيات الأكثر تشددًا في مواجهة الدين، حتى أن بعضهم ممن في فرنسا، وفي عصر ما بعد الثورة، قد ذهب إلى حد توصيف العلمانية بدين جديد للدولة!
فهل من الممكن، في سياق ذلك التطور التاريخي، أن يدفع الوعي والتشدد الأقلوي لدى مسلمي فرنسا ويهودها بالأكثرية الكاثوليكية الفرنسية إلى إعادة تعريف ذاتها بهويتها الدينية؟
على الرغم من أن ذلك قد يؤثر في أقلية فرنسية، لا تزال المشاعر الدينية تعنيها، أو في دول أوروبية أخرى يحتل الشأن الديني فيها حيزًا أكبر نسبيًا، لن يتعدى الأمر في أقصى حالاته -غير المُرجّحة- إنتاج إرهاب مرتبط بالكاثوليكية دون شعبية تذكر؛ إذ لا تمتلك الكنيسة أتباعًا ملتزمين في فرنسا، أقل من 10 بالمئة من السكان، ولا يمتلك أولئك تنظيمًا سياسيًا، أو وزنًا ونفوذًا يسمح لهم بإحداث تأثير ملموس. في المقابل، فإن رد الفعل المتوقع، هو أن ينزاح مزيد من يمين الوسط الفرنسي باتجاه الجبهة الوطنية -أي بالاتجاه القومي المتطرف الصاعد بقوة في القارة عمومًا- ولا سيما أن الأخيرة استثمرت كثيرًا من رأسمالها السياسي في معاداة الهجرة.
لقد نظمت معظم أوروبا -إلى حد كبير- علاقتها مع الدين منذ وقت طويل، وهي في سياق تطورها التاريخي، كما أسلفنا، تختلف عن الولايات المتحدة الأميركية التي تصنف الإرهاب الأصولي الإنجيلي -على أرضها- كثاني أكبر خطر إرهابي بعد القاعدة وداعش، وبالعودة إلى فرنسا، يبدو أن نوع الداء هو ما استدعى الوصفة المتوافرة لعلاجه والمتمثلة بالمصالحات الدينية.
لكن، وفي المقابل، فإن القارة مهددة بسمّ آخر، لا يقل في خطورته عن الاستقطاب الديني، ولا يخفى عن أي متابع أن صعود اليمين القومي المتطرف في عديد من الدول الكبرى في القارة، قد بلغ درجة تجعله رقمًا صعبًا في أي انتخابات مقبلة، وكما هو الحال في فرنسا؛ حيث من المتوقع أن تبلغ مرشحة الجبهة الوطنية المتطرفة، ماري لوبين، الجولة الثانية النهائية في الانتخابات الرئاسية، دون فرصة بالحسم لصالحها، فمن الممكن أن يكتسح أشباهها في دول أوروبية أخرى، صناديق الاقتراع، ويصلوا إلى أعلى هرم السلطة فيها، إن توفر الشرط التاريخي الملائم، وعلى الرغم من أن اليمين القومي غير معني بالشأن الديني بشكل مباشر، لكنه يدرجه في إطار الهوية الثقافية، أي: أننا لن نكون هنا في مواجهة حالة من الاستقطاب المسيحي – الإسلامي، بل استقطاب قومي، يبني هويته على أساس ثقافي، تحدد خطوطه العريضة عوامل اللغة والدين والتاريخ.
في ضوء ذلك المفهوم، فإن النزعات القومية الصاعدة في القارة، تنظر بعين الريبة، وحتى العداء، إلى كل ما هو أجنبي، سواء كان أوروبيًّا أو غيره؛ وبالتالي، فإنه من المرجح، أن يحرض الإرهاب المرتبط بالإسلام والهجرة خطابًا معاديًا للإسلام كثقافة دخيلة حتى على الثقافات الأوروبية المتباينة، لكن الأهم، وعلى صعيد أوروبي، أن صعود التطرف القومي قد كان من إرهاصات الحرب العالمية الثانية، وبالعودة قليلًا إلى الوراء، فإن المشروع الأوروبي المتداعي، ومنذ بداياته، بعد تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951، لم يكن سوى هندسة سياسية، هدفت -بالدرجة الأولى- إلى تحييد ألمانيا، واجتراح حل لضبط معضلتها الجيوسياسية كقوة إقليمية وعالمية محاصرة بين أخرتين، فرنسا وروسيا؛ وهو بذلك سعى إلى تجنب تكرار الأوضاع التي أدت إلى حرب كبرى، عبر ربط أهم قطبين في القارة، فرنسا وألمانيا، اقتصاديًا من جهة، وعبر حلف الناتو عسكريًا في مواجهة الاتحاد السوفياتي -في ذلك الوقت- من جهة أخرى.
لا يعني ذلك أننا اليوم على أعتاب حرب عالمية، فشروطها ليست متوافرة في الوقت الراهن، لكننا أمام تحولات لا يمكن التكهن بما ستفضي إليه مستقبلًا؛ فصعود اليمين المتطرف في أوروبا ضمن أجواء من التعثر الاقتصادي، والهجرة والسجال السياسي المصاحب لها، معضلات تتداخل وتؤثر فيما بينها، وتهدد مستقبل القارة ككيان موحد، ويذهب بعضهم إلى أن تصدع الاتحاد الأوروبي المستمر، منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، سيقود حتمًا إلى تفككه في نهاية المطاف.
إذا كان الشرق الأوسط مُعتلًا اليوم بهويات دينية قاتلة، كما وصفها أمين معلوف، فإن الغرب الأوروبي -كما الشرق الأقصى- معتل بهويات قومية مدمرة، وإن كان مرد أغلبية الحروب إلى جملة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية، إلا أن ذلك يلي تحديد الهويات، أي: بعد تعريف ثنائية نحن والآخر، ومن المعروف -أيضًا- أنه وعبر التاريخ كان التطرف الديني والقومي حوامل رئيسة؛ لتحشيد المقاتلين في أكثر الحروب وحشية، ولا تزال تلك القوى -إلى يومنا هذا- فاعلة ونشطة في غير مكان من هذا العالم، إن خصوصية أوروبا في أنها اختبرت كليهما، عبر مراحل مختلفة من تاريخها، وفي حين أنها نجحت في درء خطر الأول، فإن تجاوزها لداء القوميات، عبر بناء كيانات عابرة له، هي تجربة لم تكتب خاتمتها بعد، ولتزيد المشكلة تعقيدا، فإن عديدًا من تلك الدول، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، قد أصبحت مجتمعات متعددة الثقافات، تشهد تطورات تكنولوجية وتغيرات اقتصادية متسارعة؛ وبالتالي، فإن القارة العجوز، كما يذهب بعض المفكرين، قد تكون أيضًا مختبرًا حيًا لبناء دولة ما بعد الدولة – الأمة. لكن، وعبر التاريخ، فإن الاضطرابات والحروب كانت قد صاحبت معظم التحولات الكبرى، وليس الشرق الأوسط استثناء، بل هو مجرد بركان نشط.