“انتهيت من كتابة رواية (كوباني)، وأنا أقضي إجازتي على شواطئ أنطاليا، سعيد جدًا وحزين في الوقت نفسه، تعبت في هذه الرواية التي استغرقت كتابتها تسعة أشهر وتسعة أيام، هي رواية مدينتي المتألمة الصامدة المدمرة المغدورة الجميلة المهجورة، رواية وجعي الخاص وذاكرتي التي لا تنام”.
بهذه الكلمات أعلن الروائي السوري جان دوست على جدار صفحته في موقع “الفيسبوك” عن الانتهاء من كتابة روايته الثامنة؛ فكان أن التقته صحيفة (جيرون) للحديث عن جديده الأدبي، وعن أوجاع الكاتب، وهو يكتب أمكنة طفولته بحبر الروح في زمن الفجائع؛ فكان هذا الحوار.
بداية حديثنا مع صاحب “مدينة الضباب”، كانت بسؤاله عن الدوافع التي حفزته لكتابة رواية “كوباني”، فأجابنا: “كوباني هي المدينة التي هاجر إليها جدي الشيخ صالح النقشبندي في أواخر الحكم الفرنسي. ولدت ونشأت فيها، شربت ماءها وتنسمت هواءها وأحببت نساءها وتشهد لي أرضها وسماؤها بحبي لها. قلت حين وصلت إلى ألمانيا قبل سبعة عشر عامًا: لقد كنت على خصومة مع بلدتي كوباني، لكن الغربة صالحتني معها. والآن أقول: إن الحرب التي جرت في شوارعها وساحاتها والدم الزكي الذي أريق فيها جعلني أقدسها وأتعلق بها أكثر، في هذه الأعوام السبعة عشر كبر شوقي إليها. كنت أحلم دائمًا نفس الحلم؛ أعود إلى بلدي، أو بعبارة أدق أحاول العودة، لكنني أصطدم بالحدود والشرطة ورجال الأمن، ودائمًا كان ينتابني رعب شديد في الحلم أن يتم إلقاء القبض عليّ بتهمة ما. كوباني، وسورية بشكل عام، كانت حاضرة في أحلامي وفي حياتي الواقعية”، يتابع “دوست”: “لم أزر سورية ولا كوباني خلال تلك الفترة الطويلة، سبعة عشر عامًا، وأنا بعيد عن تلك الحارة البسيطة التي احتضنت أحلامي وعانقت مراهقتي وأمسكت بيدي كأم حنون، وحين اقترب الحلم ليتحقق، وكادت الفرصة أن تسنح لزيارة مدينتي وقعت الحرب، واحتل داعش المدينة وجرى ما هو معروف للعالم كله؛ شعرت باليأس والخذلان، شعرت بأنني أخذل مدينتي وأنا بعيد عنها وأدعي حبها، شعرت أنه يجب علي أن أذهب وأحمل البندقية لأقاتل جنبًا إلى جنب مع من يقاتل هناك، لكنني بدل ذلك انكفأت على نفسي وبدأت ألوك خيبتي ومرارتي ويأسي، لم أكن طبيعيًا في فترة احتلال كوباني والحرب التي جرت لتحريريها، شاهدت رجالًا بلحى كثة وأثواب قصيرة وشعور شعثاء يمشون في حارتي حيث كنت أمشي، شعرت بالحجارة تستغيث بي وأنا لا أغيثها، كانوا في حارتي، يمشون فيها ويأكلون من المونة التي أعدتها أخواتي للشتاء، رأيتهم عند باب بيتي، لم أعرف كيف أتصرف، قلت: كوباني هي رواية يكتبونها بالدم، وليس سخاء أن أكتب عنها بالحبر، سأدون قصتها وأرويها للعالم بطريقتي”.
إعادة إنتاج العالَم روائيًا
نواصل الحديث مع ضيفنا ونسأله: لماذا اختار أن يكون المكان في هذه الرواية هو البطل الرئيس؟ فيقول: “لا وجود للإنسان بدون مكان، المكان هو الذي يحدد بيئة النص الواقعية؛ حتى لو كانت روايتك خيالية محضًا، لا رواية بلا مكان، وفي روايتي هذه يلعب المكان دورًا بارزًا لأنه فعلًا كان كذلك، داعش اختار كوباني مكانًا لتوسيع دولته وربط أشلائها بعضها ببعض، وبالنسبة لأهل كوباني، فقد كانت عشًا احتضن كل بيضهم، وتربت فيه فراخهم كلها، لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة خارج الحدود، كثير منهم لم يصدق ما يجري، كثير من أهل كوباني تعرض لصدمة نفسية عميقة؛ حتى نحن الذين كنا على هذا البعد جرفتنا صدمة احتلال المدينة، ثم دمارها الهائل.
أمام كل هذا الخراب والدمار الهائل وتشرد الآلاف، يحضرني السؤال التالي: برأيك إلى أي حدّ ينحاز الروائي للواقع، وما اللحظة التي يشعر فيها أنه على وشك الانفجار الداخلي، والتمرّد على هذا الواقع بإطلاق العنان لخياله الروائي، وبالتالي، إعادة إنتاج العالَم من جديد؟ فيجيب صاحب “دم على المئذنة” قائلًا: الروائي هو أكثر الناس واقعية ولو أنه كتب أكثر الروايات سرياليةً، إنه يستمد كل مواده من الواقع، وما الخيال، الذي يدعي كثيرون أن نتاجاتهم وليداته، إلا نقل صورة الواقع إلى الذاكرة ثم إعادة استحضاره عبر ميكانيزمات معقدة لا مجال لذكرها الآن، يؤكد الباحثون أن الإنسان مهما تخيل، فإن خياله لن يكون خارج تصوراته عما يحس به.
أي: إن الخيال ليس إلا صورة عن المحسوسات؛ لذلك أقول لك إن الواقع، بما فيه من أحداث ومشاهد وفجائع ومسرات وعبث، هو الذي يملي على الروائي أن يسجل تصوره لما حوله في صياغة أدبية، يسميها رواية أو قصة، وفي الحقيقة فإن الرواية -كما تفضلت أنت- هي إعادة إنتاج العالَم، وأعدّها أنا قراءة خاصة للحدث أو المشهد أو الفكرة؛ أكتب رواية (كوباني) فأستحضر كل التفاصيل التي تتعلق بطفولتي وشبابي ومدينتي الصغيرة الهادئة المسالمة التي كانت تمر أعوامًا طويلة، دون أن يُسفك فيها دم إنسان بريء، وفجأة وجدت مدينتي هذه مسرحًا لجريمة همجية، فتشرد سكانها عن بكرة أبيهم، ولم يبق فيها سوى ثلة من المقاتلين يدافعون عنها؛ فجأة رأيت بيتي وبيوت أهلى وجيراني وأبناء مدينتي قد تحولت إلى ركام، ثم حدثت فيها مجزرة رهيبة غفل عنها الإعلام، حيث قتل أكثر من ثلاثمئة شخص في ليلة ليلاء، وحتى وضح النهار نحرًا وقنصًا، شاهدت صور القتلى، عرفتهم بوجوههم.
هذا جاري وذاك ابنه، هذا والد صديقي وذاك رفيق الطفولة وهذا وذاك. يا الله. الحرب بشعة جدًا ولا يعرف بشاعتها وطعمها الكريه إلا من تذوقها”. ويردف: “دوست”: “هذه الكوارث أحيانًا يعجز الخيال عن تصورها لكنها تتراكم حتى تنفجر على شكل نص أدبي، يبقى السؤال إلى أي مدى يمكن أن تكون الرواية قريبة من الواقع المعاش؟ وهل من الضروري أن تتشابه الرواية مع الواقع وتصبح نقلًا حرفيًا له؟”.
وأنقل لمُحاورنا مقولة مارتن لوثر الشهيرة: “ليست المشكلة في ظلم الأشرار، ولكن في سكوت الأخيار”، لأسأله: أليس سكوت الكاتب وعدم القيام بمسؤوليته الأخلاقية ثم الإنسانية، هو الشر الأكبر؟ وماذا عن الكتّاب حاملي أبواق الانظمة المستبدة؟ فيشير إلى أنه من الكتّاب الذين يصرخون ويصرخون ويقرعون الأجراس بكثرة، وأنه لا يمل من ذلك أبدًا ما دام هناك شيء يعده خطًا من الساسة والممسكين بأقدار الأمة. ويضيف: “لقد حاربت الكتّاب والمثقفين من بني قومي؛ لأنهم صمتوا عن جرائم كثيرة ارتكبتها مجموعة كردية، ادعت حماية الكرد في المعمعة السورية، بل كتبت رواية “دم على المئذنة” من وحي جرائم هذه الطغمة التي استلمت زمام تسيير الأمور في (المنطقة الكردية) بعد تراخي قبضة السلطة”.
ويشدد صاحب “ثلاث خطوات ومشنقة” على أنه “يجب على المثقف أن يكون إشارة مرور حمراء في وجه أخطاء السياسي ورعونته، والصراع بين المثقف والسلطة كان محور روايتي “ميرنامه”. إلى الآن لا أفهم كيف يمكن لكاتب أن يمالئ الاستبداد! الكاتب حر بطبعه، منطلق بروحه، فكيف يقبل على نفسه أن يصبح بوقًا لمستبد تافه؟”.
مناهضة العنف والفاشية والظلم بالكلمة
مواقف الروائي جان دوست تجاه ما يحدث في مناطق الشمال السوري، التي تخضع حاليًا لنفوذ الميليشيات الكردية، تميزت مبكرًا بالمكاشفة والجرأة والتحذير من استمرار السياسيين والمسلحين الأكراد من ارتكاب المزيد من الأخطاء، لا بل والجرائم أيضًا، وهنا تسأله “جيرون” عن أسباب انتقاده الدائم لهم؟ وما الرسالة التي يوجهها -كمثقف- إلى ذوي النفوذ والسلطة من أبناء قوميته بعد خمس سنوات ونيف من المقتلة السورية؟ فيجيبنا قائلًا: “(المناطق الكردية) في سورية وقعت بمساعدة النظام في قبضةِ فاشيةٍ عسكرية كردية الصبغة، لقد عانى الكرد الأمرين من سلطة الأمر الواقع الكردية؛ حتى بات كثير من أبناء (الشعب) الكردي يترحمون على أيام النظام في مناطقهم. لقد تم الزج بكثير من الوطنيين في سجون الإدارة الكردية، واعتُقل كثيرون ونُفوا إلى خارج الحدود، بل قُتل الناس المدنيون في المظاهرات، وأمام بيوتهم وفي الشوارع وفي سياراتهم. هنا لا يمكنني نصح قيادة هذه الإدارة، فلقد يئست منها وبتُّ أعرف تمامًا أنها سلطة تسحق المواطن الكردي السوري، وترتبط بأجندات لا علاقة لها بطموحات المواطن الكردي السوري؛ لذلك تبنيت مواقف متشددة راديكالية منها. أعدّ ما أقوم به واجبًا أخلاقيًا، مفروضًا عليّ كمثقف يناهض العنف والفاشية والتسلط والظلم قبل كل شيء”.
وفي هذا السياق يتابع صاحب “ميرمانة” القول: “لا يمكن للمثقف أن يجعل الأولوية للخطاب القومجي الديماغوجي الفارغ، ويترك أخلاقيات الثقافة، وأعتقد أن هذه السلطة -بسبب تهورها وطيشها- خلقت وعيًا إضافيًا للمواطن الكردي السوري، جعلته أكثر قربًا من فكر مناهضة الظلم، من أيٍ كان، بعد أن كان كثيرون يتمنون، سرًا وعلانية، أن تأتي سلطة كردية بأي ثمن. لقد دفع الكرد ثمنًا باهظًا لهذه التصوارت الطوباوية الناتجة عن قومية فولكلورية، فالحاكم الظالم، سواء كان من أبناء جلدتك أو من دين آخر وقومية أخرى، حاكم ظالم، ولا ينزع عنه صفة الظلم لا دين ولا قومية ولا صلة قرابته بك”.
ويشدد “دوست” على أن “السياسي الكردي لا يصغي إلى المثقف الكردي”، قائلاً: “لذلك لن أوجه له أي رسالة. إنما أتمنى على المثقفين ألا ينسوا دورهم في تعرية الطغاة من أي ملة وقومية كانوا”.
“نواقيس روما” شمعة تسامح في ظلام التطرف
في نهاية حوارنا مع صاحب “مارتين السعيد” نبارك له ترشيح “دار الساقي” البيروتية لروايته “نواقيس روما” الصادرة عنها هذا العام، لـ (جائزة الإبداع العربي)، وكذلك لـ (جائزة معرض الشارقة الدولي في مجال الرواية)؛ سائلين إياه: كيف ينظر إلى هذا الترشيح، وكيف يقدم لنا روايته الأخيرة هذه؟ فيقول: “أعدّ الترشيح بحد ذاته جائزة قيمة. إن “دار الساقي” دار معدودة، وتنشر لكبار الروائيين العرب، وهي -بلا شك- تقدر قيمة الأعمال التي تنشرها، وسواء فزت بالجائزة أم لم أفز بها، فالأمر بالنسبة لي دفع معنوي كبير جدًا، وبناء إضافي لجدار الثقة الذين بنته أعمالي حولي”. مضيفًا: “روايتي “نواقيس روما” هي شمعة تسامح صغيرة في ظلام التطرف الذي نعيش فيه؛ هي رواية تحكي قصة الهويات المتصارعة، وتؤكد على أن هوية المرء الحقيقية هي ما يبنيه بوعيه وفكره وبمحض إرادته، وليست تلك التي يرثها عن أبويه وبيئته، والهوية المكتسبة لا الموروثة، هي الكنز الذي تدعي الرواية أن بطلها المترجم العجوز الذي عاش ردحًا طويلًا من عمره حصل عليها، عبر تلقيح هويته بغبار طلع هويات أخرى؛ فخرج بمزيج جميل وقلب عامر بالمحبة بدل الكراهية”.
يُشار إلى أن جان دوست شاعر وقاص وروائي ومترجم سوري، كردي القومية، من مواليد عام 1965 في بلدة عين العرب (كوباني) بمحافظة حلب السورية، يقيم منذ سنوات في ألمانيا، ويعد من أهم المثقفين الكرد المعاصرين، وله عدة دواوين شعر وروايات بالكردية والعربية وترجمات وبحوث عديدة، حصل على جوائز مهمة منها: “جائزة القصة الكردية القصيرة في سورية” عام 1993، و”جائزة الشعر عن مهرجان الشعر الكردي في ألمانيا” عام 2012، و”جائزة الكتاب الشرقي” عن ترجمته لقصص كردية في كتاب بعنوان “رماد النجوم” 2013، كما حصل في آذار/ مارس 2013 على جائزة “دمشق للفكر والإبداع” التي أعلنتها مجلة “دمشق” الصادرة في لندن، عن الكتاب ذاته.