بعد نحو أربع سنوات من انطلاق الثورة، بدأ النظام السوري، بدءًا من إعلامه وإلى رئيسه، يُروّج لمفهوم “سورية المفيدة”، وهو مفهوم طرحه النظام ستارًا وملجأً؛ لإخفاء فشله وخسائره، وعدم قدرته على السيطرة على كثير من مناطق سورية، هو وكل “الأمم” التي أحضرها لتسانده في حربه.
اشتداد قوة المعارضة المسلّحة، على اختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها، وسيطرتها تدريجيًا على أجزاء واسعة من سورية، وانفلات تنظيم الدولة الإسلامية، وتمثيله بسورية بإجرام غير مفهوم، وتمرد الأكراد على التوافقات الحرجة، و”قضمهم” الأراضي السورية شبرًا وراء شبر، واشتداد رفض الشعب للنظام وزبانيته، وشبيحته وميليشياته، وتوسّع الحواضن الشعبية الرافضة لكل ما يمت بصلة لهذا النظام، ترافق ذلك مع انتكاسات عسكرية له، وخسائر غير مأسوف عليها للميليشيات العراقية واللبنانية التي تؤيده، وعدم قدرة النظام على التباهي بأي نصر، دفعه لابتداع مفهوم “سوريا المفيدة”.
“سوريا المفيدة” التي تحدث عنها النظام، وروّج لها، هي تلك المناطق التي تضم مؤيديه والمنتفعين منه ومن حربه، والموالين له لأسباب طائفية أو اقتصادية أو اجتماعية، ومعها تلك المناطق التي يمكنه أن يأسر سكّانها؛ ليحتمي بهم، ولو استطاع لسوّرها بجدار كجدار الفصل العنصري.
“سوريا المفيدة” بالنسبة للنظام، هي قطعة، أو قطع، من الأرض السورية، موزّعة هنا وهناك، تضم مدناً كبيرة وبلدات صغيرة، موصولة أو مُقطّعة، لا فرق إن زادت مساحتها أو نقُصت، لكنها لم تتعد في -أي وقت- ربع مساحة سورية، وهنا أيضًا لا فرق، المهم أنها أرض آمنة بالنسبة له.
ليست “سوريا المفيدة” تقسيمًا للوطن إلى دول صغيرة، ولا هي دولة (علوية) صِرفة، وليست أفضل الأراضي وأغناها كذلك، ولا أجمل المدن وأزهاها، ولا يقطنها أفيد الناس وأحسنهم، وإنما هي تقسيم عشوائي عسكري همجي قصير النظر، لا يمت إلى مفهوم الوطنية بصلة، ولا للعقل والمنطق أيضًا، يفرز الوطن وفقًا للونه، ويًصنّف الشعب في أفضل وأسوأ، وفقًا لولائه.
بالنسبة للنظام، دير الزور ليست مفيدة، وشعبها الطيب كذلك، ومثلها الرقة ودرعا ونشاماها، وإدلب الخضراء كقلوب أهلها، وجزء كبير من حلب، ضوء الشمال ونوره، والغوطة وقراها، رئة الشام وبستانها، ومعهم كفرنبل وبصرى ودوما وجبل التركمان والقنيطرة وجرابلس والبوكمال وقرى الخابور وغيرها كثير.
على الرغم من أن هذا التقسيم هو تقسيم فاشل عسكريًا، وصاعق اجتماعيًا، ولا أخلاقي ولا إنساني بكل المفاهيم، إلا أن النظام مستمرّ فيه، يًحاصر ليُخلي المدن؛ لتحقيق “سوريته المفيدة”، وينتهج سياسة الأرض المحروقة للغرض نفسه، ويغيّر ديموغرافيًا لتخلو له الساحة، ويعمل كل شيء لتثبيت سوريته “المفيدة” المُتخيّلة على الأرض.
قامت الثورة السورية ضد التمييز، وضد التفريق بين الشعب وتصنيفه، سواء أكان تصنيفًا اقتصاديًا أم طائفيًا أم مناطقيًا، ورفض أصحاب الثورة أن يكون لأيّ منهم امتيازٌ على الآخر، وحده النظام السوري هو الذي لم ولن يتغير، فلطالما لعب على التمييز والتفريق بين البشر، واستمر على ذلك إلى يومنا هذا.
كل السوريين نشامى و”مفيدين”، ولكل فرد قيمته، وكل سيدة سورية هي أم الجميع وأختهم، وكل طفل مسؤوليتهم، وكل الطيبين في الأرياف هم ملح الأرض، وكل الزنود التي بَنَت وستبني هي الأصل، والوطن هو كل المدن الكبيرة والقرى الصغيرة، دون استثناء، وكل التلال الجرداء والغنّاء هي ربيعه، وكل حفنة من تراب الجولان، أو من صحراء تدمر، أو من رمال الساحل، تستحق الدفاع عنها، فلا شيء في سورية “غير مفيد”.
من الشذوذ والاعوجاج التعامل مع سورية، أرضًا أو شعبًا، من منطلق الفائدة وعدم الفائدة، ومن الجنون وصف أي جزء منها بـ “الضار”، فسورية التي نُحب، كانت وستبقى، كلها “مفيدة”.