تحقيقات وتقارير سياسية

فضيحة الأمم المتحدة وانحطاط المنظومة الدوليّة

يشير تقرير صحيفة الـ “غارديان” البريطانية، المنشور في 29 آب/ أغسطس 2016، إلى أن الأمم المتحدة قدمت مساعدات لنظام بشار الأسد بعشرات ملايين الدولارات، من خلال مِنحٍ مباشرة لـ “الحكومة السورية” أو غير مباشرة عبر “جمعيات خيرية”، معظمها يتبع لأشخاص من عائلة الأسد، أو مقربين منه. الفضيحة هي في الدعم المادي المقدم لنظام مارس أكبر عملية إرهاب منظم لدولة ضد شعبها، قتلًا وتشريدًا وتجويعًا، والأسوأ أن تلك المساعدات قد وصلت إلى جمعيات، بعضها تديرها زوجة الأسد، وأخرى يديرها رامي مخلوف، ابن خال الأسد، والشخصان كلاهما مدرج على لائحة العقوبات الأوروبية والأميركية المفروضة على النظام ورموزه.

يؤكد التقرير أن الأمم المتحدة دفعت أكثر من 13 مليون دولار لـ “الحكومة السورية”، لدعم الزراعة، كما تم دفع 4 ملايين دولار للشركة الحكوميّة المُزوّدة للنفط، وأنفقت منظمة الصحة العالميّة أكثر من 5 ملايين دولار؛ لدعم بنك الدم الذي تسيطر عليه وزارة الدفاع، كما دفعت الأمم المتحدة 8.5 مليون دولار إلى (جمعية الأمانة الخيرية) التي تديرها زوجة الرئيس أسماء الأسد، وحوالى ربع مليون دولار (لجمعية البستان) التي يملكها ويديرها رامي مخلوف، وهو أحد أبرز الشخصيات الاقتصادية للنظام، والذي مثّل واجهة لسرقة واحتكار أكبر القطاعات الاقتصادية في البلاد، ومنها شركة الهاتف المتحرك (سيراتيل) -التي قبضت لوحدها بحسب التقرير 700 ألف دولار من الأمم المتحدة إضافة إلى سيطرته على معظم وكالات السيارات، والبنوك الخاصة، وآخرها امتلاكه شركة الطيران الخاصة (أجنحة الشام)، والعديد من القطاعات الرئيسة الأخرى (الكهرباء، النفط الخ). كما أن ما يسمى “جمعيات خيرية” التابعة لمخلوف، تُدير وتُموّل ميليشيات عسكرية تُقاتل إلى جانب النظام، لا تزال ترتكب عمليات قتل وحشية بحق السوريين حتى الآن.

الرابط أدناه من ويكيليس، مرفقًا مع التقرير الأصلي، يُبيّن جانبًا من حجم الفساد، والصفقات المشبوهة لرامي مخلوف، والتي تسببت في وضعه على قائمة العقوبات الأميركية والأوروبية:
https://wikileaks.org/plusd/cables/08DAMASCUS70_a.html
علاوة على ذلك، يُظهر التقرير، وثائق المشتريات الخاصة بالأمم المتحدة، والذي تُثبت أن وكالات الأمم المتحدة أقامت أعمالًا تجارية مع أكثر من 258 شركة سورية أخرى على الأقل، من المرجح أن معظمها على صلة بالأسد، أو أقربائه وأعوانه، منفقة بذلك مبالغ تصل إلى 90 مليون دولار.

تُبرر الأمم المتحدة ذلك بأن هدفها إيصال المساعدات إلى المحتاجين من خلال الوسيلة الوحيدة المتاحة بحسب زعمها، أي النظام، على الرغم من اعتراف الأمم المتحدة نفسها بأن النظام مارس عملية ابتزاز؛ للسماح لتلك المساعدات بالدخول إلى الأراضي السورية من خلاله. وبحسب تصريحات أكثر من شخص عمل لدى الأمم المتحدة في سورية، فإن مؤسسات النظام الرسميّة وغير الرسميّة ليست مصدر ثقة، حيث تفتقر إلى الحد الأدنى من الحياد والنزاهة والشفافية، عدا عن أن القول بأن النظام هو وحده السلطة القادرة على توزيع المساعدات الأمميّة هو قول مناف للواقع، فالنظام فقد السيطرة على أكثر من نصف الأراضي السورية، والأمم المتحدة قادرة على التواصل مع السكان المحليين، وإيصال المساعدات إلى محتاجيها الحقيقيين دون المرور من بوابة النظام الذي استخدم تلك المساعدات في تمويل عملياته الحربيّة، وتعزيز قدراته في عمليات التجويع والحصار الممنهجة التي لا تزال مستمرة بحق السوريين أمام مرأى العالم.

من المهم -هنا- الإشارة إلى أن نتائج التقرير، تأتي في سياق مُثير للريبة، في تعامل الأمم المتحدة والعالم مع الأحداث في سورية، منذ اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011، الذي يشير -بوضوح- إلى مساهمة هذه القوى في تهشيم المجتمع السوري، واستمرار مأساته، ويكفي أن نذكر حالتين للإشارة إلى سلوك الأمم المتحدة المشكوك في نزاهته وحياده:

في آب/ أغسطس 2013، كانت بعثة الأمم المتحدة موجودة في دمشق للتحقيق بمزاعم استخدام الأسلحة الكيماوية، عندما قام نظام الأسد بقصف جديد للغوطة بالأسلحة الكيماوية، أدى إلى سقوط 1466 ضحية من المدنيين في الساعات الأولى. وعندما طُلب من الأمم المتحدة الدخول إلى مكان الجريمة للتحقيق، قالت: إنه ليس لديها الصلاحيات القانونية للدخول إلى تلك المناطق، لكنها أكدت لاحقًا استخدام الأسلحة الكيماوية، مع تهرّبها من تسمية القاتل، في حين اكتفى العالم بتسليم النظام لمخزونه من السلاح الكيماوي، ليتابع جرائمه دون حسيب ولا رقيب، ففي الوقت الذي تتعدد التقارير التي تدين السلطة السورية بجرائم الكيماوي، يزداد العالم إصرارًا على قتل الحقيقة والعدالة بمبررات تافهة ومتهافتة، تشبه مبررات الأمم المتحدة في حصر مساعداتها المفترضة للشعب السوري عبر أجهزة النظام.
من الجدير بالذكر، أن تقرير صحيفة الـ (غارديان)، كشف أن الأمم المتحدة أنفقت أكثر من 9 مليون دولار على إقامة موظفيها في فندق الفورسيزون في دمشق، الفندق الذي يبعد بضعة كيلومترات عن الغوطة مكان جريمة الكيماوي، والممنوع عنها الدواء والطعام منذ أكثر من أربع سنوات، والتي تتعرض إلى عملية تهجير ممنهج، وهو ما يحيلنا إلى الحالة الثانية، أي جرائم التهجير الطائفي التي يُمارسها النظام بشكل مُمنهج، وآخرها جريمة تهجير أهالي داريّا، حيث فرض النظام على سكان المدينة المُحاصرة منذ سنوات اتفاقًا يقضي بتسليم المدينة، وترحيل حملة السلاح منهم، وعددهم حوالي 700 مقاتل، إلى مدينة سورية أخرى، هي إدلب، والأغرب اشتراط ترحيل ما تبقى من المدنيين وعددهم حوالي 4000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال إلى مناطق أخرى، بحيث أُخليت المدينة من سكانها الأصليين تمامًا، بعد أن كان تعدادهم حوالي ربع مليون نسمة قبل بداية الثورة.

التهجير العرقي أو الطائفي ليس بالحدث الجديد في تاريخ الحروب الأهليّة في العالم، لكن مع الشروط المحيطة بهذه الواقعة، يبدو الحدث فريدًا ومشينًا في آن، فالجاني هو سلطة محليّة ومن المفترض أنها “الدولة” هنا، والمجني عليهم هم سكان أصليون، كما أن هذه العملية لم تتم خارج الموافقة الدولية، بل بشهادة دول العالم، والأكثر بؤسًا بمباركة الأمم المتحدة.

لم تكن الأمم المتحدة منذ تأسيسها وفيّة لمبادئها دائمًا، وخاصة أنها تخضع في كثير من الأحيان لإرادات الدول العظمى، كما ليس المطلوب تحميل المؤسسة الدولية مسؤولية كل الصراعات العسكرية في العالم، لكن من المؤكد أنه من غير المقبول أن تخضع مؤسسة العدالة الدولية -أو هكذا يُفترض- لسلوك نظام همجي كالنظام السوري، وأن تقبل بابتزازه، وتُبارك أو أن تكون شاهد لعمليات تهجير طائفي، وفي الوقت نفسه، تساعده ماديًا، وهي تعرف حق المعرفة أن تلك الأموال لن تذهب إلى محتاجيها، وكأن العالم يتشبه ويتماهى مع المجرم بدلًا من وقفه.

على الرغم من القناعة بأن التاريخ عمومًا يسير في تقدّم، بانحدارات وتصاعدات متواترة ولكن نحو الأمام، فإن التقرير المذكور هنا، وتعامل العالم عمومًا مع الثورة السورية، ومجمل الأحداث اللاحقة لها، توحي بوضوح، بوجود نكوص حضاري مخيف في عالم القيم العالمي، وليس المقصود هنا تلبيس مفاهيم مثالية لا تحتملها السياسة، التي لا يزال البشر معها في خدمتها، وليس العكس للأسف، بل هي رؤية سياسية لعالم فقد المعيار الأخلاقي، وتخلى عن مبدأ العدالة، وتنكر لحق البشر في الحياة الكريمة، ولم يعد للحقيقة أي أهميّة عنده. إنه نكوص لعهد الاحتلال، والتهجير القسري، والقتل المنفلت، الذي ستجد معه كل الديكتاتوريات، والتنظيمات الهمجيّة، والأفكار الأصولية مساحة جديدة للظهور والتمدد، وسيجد العالم نفسه في مواجهة مع عقل قديم مسلح بكل التقنيات الحديثة.

قد لا نستطيع تغيير العالم، لكن دائمًا هناك شيء ليُفعل أو يُقال، وإن كان لنشر هذا التقرير أهمية في فضح دور الأمم المتحدة في دعم نظام الأسد، لكنه في الوقت نفسه يحيل إلى سؤال يخص السوريين: لماذا فشلوا في تأسيس مؤسسة مالية وطنية سورية، ذات صدقية، خارج سلطة النظام؟ وإن لم يكن هناك من جواب شاف، فالأفضل أن يبدؤوا بالعمل على تحقيق ذلك، خاصة أن كل المؤشرات تدل على أن حربهم لن تنتهي قريبًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق