مقالات الرأي

الإرادة السلطانية في أطوار الهوية الشامية

مع كل منعطف تاريخي حاد، يعود موضوع “الهوية”؛ ليترأس قائمة أولويات النقاش العام، وترتفع حرارة جدل “الهوية”، بالتوازي مع حضور السلاح، كأداة للتعبير الأوضح عن “الذات” الجمعية وأهوائها ومصالحها، في منطقة حرب مفتوحة.

 

فبحث مسألة الهُوية ليس بحثًا نظريًا اجتماعيًا سياسيًا فحسب، وإنما ضرورة فرضتها الحرب الدائرة، وشأنًا وجوديًا مصيريًا وملحًا، يواجه أهل الأرض الشامية أنّى توجّهوا، وكيفما تحرّكوا.

 

وإذا عدَدنا “الهُوية” عمارة جمعيّة، تضم جماعات شكّلتها الأوضاع التاريخية، فإن هذه العمارة تتمّيز بمجموعة من الملامح، تُنتجها الثقافة الشفاهية المتوارثة والمتداولة؛ أغاني، أهازيج، أمثال، حكم، ملاحم بطولية، نوادر، حكايات عن الذات وعن الآخر المختلف، إضافة إلى الطقوس والمقدسات والعادات والتقاليد والأعراف، التي تميز كل جماعة عن أخرى، من حيث طرق اللباس والظهور العام والأكل والشراب والاحتفالات بالأفراح والأحزان والأعياد، وكل ما يميز جماعة عن أخرى داخل العمارة الجمعية، فأهل المدن يختلفون عن أهل الريف، وأهل الجبل يتميزون عن أهل السهل، وابن البادية ليس كابن الحضر، والمسيحي غير المسلم، والمسلم المديني غير المسلم الريفي، والمسيحي الدمشقي يتمايز عن المسيحي الجزراوي (الجزيرة السورية)، والتاجر غير الفلاح، وكلاهما غير البدوي، وهكذا؛ مجموع كل تلك التمايزات في العمارة الجمعية، يُشكّل نسقًا وجدانيًا قيَميًا، وطرازًا ملموسًا، يمكن أن يتحوّل -بفضل النخب الثقافية والسياسية- إلى “ثقافية عالية”، تُنتج -من جملة ما تُنتج- رؤية ثقافية للهُوية.

 

وإذا نظرنا إلى هذه الجماعات، وهواجسها وانفعالاتها، وغريزة “الأمل” لديها، من منظور الهُوية، سنرى سيلًا من التعبيرات المحددة لمعالم الهُوية؛ ما يجعل من “التعاريف” المدرسية، والمعاني الحزبية الأيديولوجية التي أضيفت إليها تعبيرات هزيلة البنيان، كاريكاتورية الملامح.

 

ولعله خلال التفكّر في مفهوم “الهُوية” داخل المشهد السوري، وبنية النسيج المشكل منه، نلاحظ وجود نسقين لـ “الهُوية”: الأول؛ عامي شعبي -المشار إليه أعلاه-، والنسق الثاني؛ تكوّن داخل الفضاء الفكري للنخب السورية، وسنجد أن هذين النسقين قد تعايشا، ونما بينهما العديد من المشتركات، على الرغم من احتفاظ كل نسق منهما بمساره الخاص. ومن خلال هذا المنظار، يمكن رصد أهمّ التطورات التي أحاطت بمفهوم “الهُوية”، وفرضتها الأحداث الجارية على الأرض الشامية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

 

وإذا عدنا إلى فترة تطبيق مرسومي الإصلاحات العثمانية (الكلخاني، والهميوني)، في حقول الإدارة العسكرية، والإدارة المدنية، والأنظمة القانونية، ونظام الجمعيات الحرفية، ونظام “الملّة” لغير المسلمين، نجد أن النسق العامّ لـ “الهُوية” في الأرض الشامية، عُبّر عنه بـ (المسلمون وغير المسلمين)، وكلاهما بمسمّى “رعايا الإرادة السلطانية”، وكلاهما ينتميان الى “الوطن العثماني؛ المصطلح المستجّد على الفضاء السياسي العثماني، وقد تشاركت العامّة والنخب بهذه الرؤية للهُوية، مع استثناء بعض الجماعات المحلية، التي لم يستوعبها عمليًا تعريف “المسلمون وغير المسلمين”.

 

في الطور الثاني للإصلاحات (مرحلة جمعية الاتحاد والترقي 1908)، بدأت تنضج فكرة العروبة، وحقوق العرب وشرعية أن تكون اللغة العربية لغة رسمية، إلى جانب اللغة التركية، فوق الأرض الشامية، تحت مظلّة الهُوية العثمانية (مسلمون وغير المسلمين)، وبدأت الأحداث تأخذ مجرى حادًا، مع تسارع نمو النزعة القومية الطورانية داخل الحوض الأناضولي، على وقع خسارة الإمبراطورية العثمانية أجزاء واسعة من مناطق سيطرتها شرقي أوروبا والبلقان، ذات الأغلبية المسيحية، وانتشار الثقافات “القومية” في كل أرجاء المعمورة العثمانية، من جراء الإصلاحات والانفتاح العثماني.

 

الطور الثالث جاء مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهزيمة الجيوش العثمانية؛ حيث برز الفكر العروبي جليًا وحماسيًا، يدافع عن نفسه وحقه العام من خلال تجربة الأمير فيصل بن الحسين، شريف مكة، إلا أنه لم يفسح له في المجال، ولا لرجالات المؤتمر السوري الأول؛ للعمل على مأسسة منظومة فكرية سياسية عربية، تنضج فيها رؤية لمفهوم “الهُوية”، الهوية التي خطت أولى ملامحها -بالتأكيد- على مفهومي العروبة والإسلام، فسرعان ما جاءت نتائج الحرب العالمية الأولى؛ لتجهض التجربة الفيصلية، بفرض الانتداب على الأرض الشامية.

 

ليبدأ طور رابع في موضوع الهوية السورية، لدى ظهور تباينات جديدة داخل النخب الثقافية والسياسية، حول مفهوم “الهُوية”، فبعضهم ظل أمينًا لمفهوم “المسلمون وغير المسلمين”، وبعض آخر كان أكثر حيوية ونشاطًا وحماسًا لمفهوم “العروبة”، بالاستناد إلى قاعدة الحديث الشريف “إذا ذلّ العرب ذلّ الإسلام”؛ إذ رأوا في “العروبة” جامعًا عامًا رحبًا لحزمة واسعة من ألوان الطيف الاجتماعي، منها لم يكن لها حضور ندّي في هُوية (مسلمين وغير مسلمين)؛ حيث لم تر النخب العروبية أيّ مشكلة مع الإسلام، كعقيدة وكتجربة تاريخية حضارية، بل عدّت العروبة والإسلام متلازمين ومتممين بعضهما بعضًا، وما التلازم الذي وضعه بعضهم -آنذاك- بين العروبة والإسلام، سوى تلازم في مسارات السياسة ومصالحها، كما أن الأغلبية الشعبية ظلت حيادية تجاه هذا التلازم، على الرغم من تعاطفها مع مفهوم “المسلمون وغير المسلمين”.

 

إلا أن سياسات الانتداب الفرنسي جاءت؛ لتترك بصماتها على مفهوم (العروبة) للهوية، وكان لها تأثيرات في حركته وبنائه وتطوره؛ حيث اعتمدت تلك السياسات على النسق العامي الفطري “للهُوية”، المستقر، ورأت في سكان البلاد السورية جماعات وأقوام وقبائل، ينطقون بلغة واحدة؛ لذا أسماهم الانتداب “الناطقون بالعربية”، كما تحاشت التعاطي الإيجابي مع التوجهات الرئيسة والمتنوعة للنخب المدينية ومفاهيمها، خاصة “الهُوية”؛ لإدراكه مآلات نضوج مفهوم “الهُوية”؛ إذ لا بد أن تتجه نحو مفهوم الدولة – الأمة، والتي كانت للثورة الفرنسية اليد الطولى في ظهوره ونضوجه وممارسته، الأمر الذي يتعارض مع مصالح الانتداب. لكن ذلك لم يمنع -في الوقت ذاته- أن يحصل العكس، إذ دفعت المواجهات مع سياسات الانتداب إلى تبلور وتطور مفهوم العروبة، واقترابه من مفهوم القومية العربية التي تضمّ أراضيها بلاد الشام والجزيرة العربية، ورؤية أخرى ترى بلاد الشام أرضًا سورية.

 

الطور الخامس في مرحلة الاستقلال، حيث كان لصعود الشرائح الوسطى، والريفية منها خاصة، وحضورها اجتماعيًا وسياسيًا، دورًا أساسيًا في تطوير وإغناء مفهوم الهُوية، وإكسائه بعدًا اجتماعيًا “تقدميًا” ترافق مع نزعات انقلابية، ترمي إلى “تحديث سريع” بقيادة المؤسسة العسكرية، لاستدراك فشلها بالتصدي للمشروع القومي الصهيوني في فلسطين، فبات هذا المفهوم للهوية الأكثر انتشارًا وتداولًا في أوساط النخب، والعديد من الأوساط الشعبية الريفية خاصة.

 

والملاحظ أن عامل الدفع الأساسي في كل تلك الأطوار، التي مرّ بها مفهوم الهوية، قام على مبدأ “الضد”؛ ضد الاستبداد العثماني، وضد الانتداب الفرنسي والاستعمار عامة، وضد الصهيونية، ضد الرجعية… إلخ؛ ما جعل من هذا الدافع “الكيدي”، على أهميته وواقعيته، تكوينًا سياسيًا وأيديولوجيًا، يفتقر إلى بنية المؤسسات الاجتماعية والثقافية، تلك المؤسسات التي تبنيها الجماعات الأهلية، من أندية ثقافية ورياضية وكشفية، وجمعيات اجتماعية، تعزّز قيم التكافل الاجتماعي، وتعمق وشائج الحياة المشتركة، والمصالح المشتركة، والرؤى العامة الجامعة، بالتعاون مع المؤسسات المدنية، من اتحادات مهنية ونقابية وجامعات علمية وأحزاب سياسية، تتنافس على برامج جامعة، وسلطة سياسية تعمل تحت سقف وقواعد الدولة الحديثة وتطوّرها، بحسب مقتضيات الاجتماع العام المتكيف مع تحديات العصر.

 

هذا الطور لم تمر به التجربة القومية “التقدمية” في الأرض الشامية، التي استبدلت المؤسسات، بهياكل شكلية حديدية، مبدؤها الضبط والتحكّم وفق الإرادة “السلطانية” للحزب القائد والقائد الخالد؛ ما جعل مفهوم “الهُوية” العثماني، المتشكل في منتصف القرن التاسع عشر، قائمًا ومستقرًا في الوعي الشعبي والعديد من النخب، وهذا ما كشفت عنه نيران البركان السوري الكبير.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق