أدب وفنون

حمص التي لم نعد نعرفها

كتاب (للحب وقت وللموت وقت) للأديب المسرحي الحمصي عبد الكريم عمرين، ليس كتابًا عن العيش وسط ساحة حرب عبثية، ولا عن الدمار الذي يخلفه قصف لا يرحم، ولا الجوع من جراء الحصار، وإنما هو عن كل ذلك وأيضا عن فسحة للحب تحت الانقاض.

الكتاب الصادر عن دار أرواد أخيرًا، كُتب في حمص وصدر، بينما مازال كاتبه يتنفس الوجع في مدينته المدمرة، المدماة:/ أرض ضاقت عليَّ بما رَحُبَت / ولا أغادرُ حمص/.

 

حمص التي يعيد كتابتها عبدالكريم عمرين شعرًا، هو اقرب إلى أنين وجداني نابع من عمق الركام المادي والمعنوي؛ فتبدو المدينة في النص غير تلك التي تنقل نشرات الأخبار أخبارها، فمدينة الشاعر طيبة، بسيطة، جميلة، هتكت سترها جحافل الحقد،  وتركتها حطامًا وركامًا، إلا أن روحها لم تمت، وماتزال تسكن نفوس أهلها، وتخبئ في قلوبهم درة ابتسامتها،  وهذا ما تكشف عنه  نصوص الشاعر عمرين، حين يسرد فظائع يوميات الحرب، وجماليات الحب، في آلية ذهنية تفرضها أجواء مدينة كانت تضج بالحياة: / تحوَّلت حِمص إلى صحراء/ البيوت فيها كثبان من رمل / وبيتي كهف أتقلَّبُ فيه ذات اليمين وذات الشمال/ وروحي مُستلبة وخاوية/

حين لا صوت يعلو على صوت القصف. ولا أمل مرتجى بخلاص قريب: ” لكن ثمة فتنة / فتنة الحُب ليسَ إلا. ليس إلا. / وما أبأسني أنِّي ما زلتُ/ أبحثُ عنكِ في شتاتِ الأرض/.

 

في بيته “الكهف” أمضى عبد الكريم عمرين أربع سنوات محاصرًا مع ابنه فادي، 27 عامًا، كان خلالها يطل من حين لآخر، عبر الشاشة الزرقاء، على أصدقاء صفحته على (فيس بوك)، ليكتب بضع كلمات، تارة تكون آهًا وأخرى ابتسامة، لكنها كانت دومًا تعني: “مازلنا أحياء” وسط الموت والحصار، ولا نكشف سرًا في القول إنه مازال يعيش الحصار حصارين؛ حصار الحرب، وحصار المرض المديد؛ فابنه الذي يلازمه، من ذوي الاحتياجات الخاصة، بكل ما تعني الكلمة من متطلبات الرعاية والعناية الفائقة، على الأب تلبيتها، بغض النظر عن سنوات عمره الستين، وأيضا بغض النظر عن ارتدادات الهلع المعاش على مدار الساعة:

“لساعات طويلة، بل لأيام / لا أخرجُ من بيتي/ أقتعدُ وفادي/ أطعمه بيدي، أغنِّي له / أقصُّ أظافره/ فيضحك ملء قلبه/ وأبكي ملء قلبي. / أنازله مُصارعًا، فأفترض هزيمتي/ ويزهو منتصرًا، يسبقه رضابه مدرارًا / فشاب معاق هزم عجوزًا نخرته السنون. / جرس الباب لا يُقرع، الهاتف أخرس/ لا أحد يسأل عنّا في معمعة الحرب المجنونة / ووسط مجازر الحقد. / أولئك الذين زارونا، بهدف السياحة الدينية/ اكتفوا بزيادة رصيدهم من حَسَنات / تُعَزِّزُ مقامهم في جنّة الرضوان/ وهؤلاء الذين زارونا بهدف السياحة الإنسانية/ اكتفوا بزيارة واحدة لدقائق / ألقوا مواعظهم، ومنحونا نظرات مشفقة / وخرجوا بأناهم وقد تورَّمت زهوًا وتخمة إنسانية / ليتحدثوا عن هذه الدقائق للآخرين لساعات طوال./ يجلس فادي في الشرفة وحيدًا / يتحدث إلى الأصوات التي يسمعها / وإلى شخوص لا يراهم / يأسف لمرور سيارات الإسعاف/ ويضبط قدوم سيارة جمع القمامة/ يفرح لأبواق وزمامير عربات الأعراس/ ولحفيف سقوط أوراق الأشجار/ يبدأ بعدِّ القذائف المتساقطة على الوعر/ ويصرخ في وجه من يطلق الشيلكا / ينكمش حين يرتج كرسيه، بسبب اسطوانة سقطت / يناديني خائفًا فأضمه / ويسألني متوجسًا متطيرًا مرتعشًا: بابا .. هل مات أحد؟ / أقبله وأهمس في أذنه: لا يا حبيبي.. لم يمت أحد.. كلنا أحياء.. كلنا أحياء.. بلا حياء. /…

 

ولعل الإشكالية التي تواجه قارئ نصوص، وقصائد عبد الكريم عمرين المكتوبة في أتون حرب ضارية، أنه لا يمكن قراءتها بعين الناقد الأدبي، ولا بحس ذواقة الشعر والأدب؛ لأنها نصوص لا تسرد قصصًا من الواقع ولا تشهد عليه، ولا تضبط مفرداته، وتعيد صياغتها بصور أدبية، بل هي نصوص من الوجع ذاته، لا يمكن قراءتها إلا بعين المفجوع، المكلوم، الملتاع، ومن الصعب محاكمتها بموضوعية نقدية، إذ تنتصب من خلف السطور شواهد القبور، فتنهمر الدموع من بين الحروف، ويسيل الدم على حواف الورق:

“كل ما تعلماه في السنوات الأربع/ كيف يراوغان القناص/ كيف يركضان يمنة ويسرة/ ينحنيان ثم يثبان/ يقرفصان، يزحفان / كي يحار القناص أين يسدد/ تعلما كيف يضبطان هروبهما بين القذيفة والقذيفة/ وكيف يستطيعان أن يقاوما الجوع بكسرة خبز/ والبرد بالقفز في المكان/ تعلما أن الموت أمر عادي كشربة الماء/ وأن على الإنسان ألا يصرخ، مهما كانت جراحه بليغة.. / تعلما الموسيقى بالنقر على الشظايا / وكيف يقطفان الخبيزة من حدائق الحي.. / الحرب المجنونة ذهبت بمستقبل الأولاد / وهشمت البلاد /..”

 

لا خيالًا خصبًا، ولا صورًا شعرية إبداعية مبتكرة، ولا فيض مشاعر وأحاسيس تداعب شغاف القلب، في هذا الكتاب، وإنما واقعًا معاشًا، تنقله الكلمات بتجرد، “يقاومان الجوع بكسرة خبز”، واقع عاشه كل من تعرض للحصار في سورية، وجملة ” تعلما الموسيقى بالنقر على الشظايا” ليس فيها كناية ولا استعارة، المحاصرون المبدعون حولوا أدوات الموت الى أدوات موسيقية، وسخروا من قابضي الأرواح، وكذلك كانت كل جملة وكل صورة في الكتاب، تنقل دقائق حياة المدنيين الذين رفضوا مغادرة مناطقهم المدمرة.

 

حمص اليوم المدينة التي لم نعد نعرفها، يقدم لنا عبد الكريم عمرين فرصة؛ لإعادة اكتشافها في نصوص ولدت من رحم الزمن الميت، حين انعدمت كل وسائل الحياة، وكادت أن تتعفن جثة الأمل: “يا أنتم إذا مامتنا وعدتم، لم يعد في المدينة حيطان”.

 

لكن ما زال في المدينة عبد الكريم عمرين، الذي امتلك، على الرغم من كل ما يعانيه من البؤس الخاص والعام، إرادة الكتابة من قلب حمص عن الحب؛ ليكون أول إصدار تحت الحرب، كتبت معظم نصوصه في حي الوعر في أثناء الحصار، وأخرى عند مغادرته بيته، بكل ما فيها من تفاصيل القهر اليومي، عبر 180 صفحة من القطع المتوسط، مغلفة بصورة للكاتب في شوارع الوعر، صممها خلدون عمرين.

 

“لا مفر لا مفر من الجنون، دائرة الطباشير الحمصية، الجندي الوطني اليقظ على الحاجز، أعيش وحيدًا وسط الحرب القذرة، رسالة خاصة جدًا، أين أبيت هذه الليلة يا سيدتي، لساعات طويلة بل لأيام، أنا إنسان كئيب حتى تحضري، جمعت البحر في كفي، مازال في الوقت متسع، في بلاد منسية يأكلها الحقد الضروس”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق