إعادة الإعمار بعد الحروب لم تنجح سوى في أوروبا، وفي ألمانيا خاصة، كون الحلفاء دمروا في الحرب العالمية الثانية مدنًا كاملة، بمنازلها ومصانعها وطرقها.
وبالمقارنة، لم تنجح العملية في أفغانستان والعراق بعد غزو أميركا وحلفائها للبلدين، في عامي: 2001، و2003 على التوالي.
نجحت أوروبا في إعادة الإعمار، بفضل مشروع مارشال الذي جعل أميركا تصدّر كميات هائلة من الدولارات إلى القارة العجوز.
في السياسة، اندفعت أميركا لملء الفراغ في أوروبا؛ كي لا تترك للاتحاد السوفياتي فرصة الاستفراد بها، وفرض الرؤية الشيوعية على القارة العجوز، المتعبة بالفقر والجوع والخوف، حيث يسهل على الأفكار الشيوعية أن تروّج بسهولة، وهو ما كان حاصلًا فعلًا.
بدأ المشروع كفكرة عام 1947، متقدمًا قليلًا على نشاط “لجنة مكارثي” (نسبة إلى السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي)، حين عدَّ مكارثي الشيوعية دينًا، يهدف إلى القضاء على الدين المسيحي، فـ “احتسبت” لجنة مكارثي على أكثر من عشرة آلاف موظف أميركي، وفصلتهم من وظائفهم، ومنهم ألبرت أنشتاين، ومارتن لوثر كينغ، وآرثر ميللر، وتشارلي شابلن، إضافة إلى سجن أكثر من مئتي موظف، بتهمة الشيوعية.
نظريًا، استمرت لجنة مكارثي في لعبها على الخوف من “الدين الشيوعي”؛ حتى عام 1954، لكنها ظلت تعمل تحت السطح طوال فترة الحرب الباردة، وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي.
اقتصاديًا، طبعت الولايات المتحدة حوالى 13 مليار دولار، وصدرتها إلى أوروبا، بمعنى أنها لم تتكلف على الدولارات سوى تكاليف طباعتها، مسترشدة بالنظرية الكينزية (التمويل بالعجز)، والتي طبقتها -بنجاح- في أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
لم تستغرق أوروبا، وألمانيا خاصة، أكثر من سبع سنوات؛ حتى دارت المصانع من جديد، وضجت الحياة في الشوارع والمنازل، وامتص الانتعاش رواسب الكساد، وارتفع التشغيل إلى حدود تقترب من “البطالة صفر”، ممتصًا آثار التضخم في مثل هذه الأوضاع المديدة.
في سورية، طرح النظام فكرة إعادة الإعمار مرات، خلال السنوات الخمس الماضية، ومنها “معرض إعادة إعمار سورية”، بين 7 و11 أيلول/ سبتمبر الجاري.
وعلى الرغم من هزلية الفكرة، ومأسويتها، في وقت يستمر فيه النظام في تدمير البلاد، بما فيها “سورية المفيدة”، يمكن قبول الفكرة نظريًا، ووضع ملاحظات عليها.
أولًا، لا يوجد مارشال أميركي، أو أوروبي، أو أممي، مستعد لمنح سورية مئات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار. في الحقيقة، كانت سورية -قبل عام 2011- في حاجة إلى الإعمار، وكان يمكن -لذلك- أن يبدأ، لولا تعطيل “مخلوف أخوان، وشاليش أخوان” لذلك المشروع، كونهما لا يسمحان بأي مشروع بهذه الضخامة، دون أن يمر من مكاتبهما، أو بالشراكة معهما. وقتئذ؛ فهم مستثمرون خليجيون ذلك فتحالفوا مع مخلوف وشاليش، ولولا الثورة، لكنا الآن نرفع رؤوسنا؛ لنقيس ارتفاع أبراج البرامكة، ونقرأ عليها إعلانات “الشام القابضة”!
ثانيًا، ذلك غير ممكن؛ لأن النظام السوري لايزال يفكر بـ “الأبد”، ويستبق الأمور، كما استبق داعش الأمور، وفكر في إصدار الدينار والدرهم، كدليل على فكره الاقتصادي. وكما أن إعادة الإعمار على يد من دمر البلاد، لن تكون ممكنة، وربما لن تكون ممكنة بيد المعارضة الحالية التي لم تفكر بـ “اليوم التالي”، أو -حتى- بالساعة التالية.
ثالثًا، وهو الأهم، أن سورية فارغة من نصف سكانها، ومن العبث أن نفكر بتفاؤل بعودة هؤلاء، خاصة أن أفق الحل والأمان لايزال بعيدًا، وكلما طالت الفترة واعتاد السوريون، في أوروبا خاصة، حياتهم الجديدة، سيكون احتمال العودة أقل.
وحين تنتهي الحرب، ستكذب الأرقام لفترة طويلة، نعني أن النمو الاقتصادي سيكون كاذبًا في السوق، وعلى موائد الفقراء.
للمقارنة، والدلالة، نما الاقتصاد العراقي عام 2004 بنسبة 50 بالمئة، لكن من أي حضيض!
يمكن للاقتصاد السوري، أيضًا، أن ينمو، في السنة التالية لتوقف الحرب، بنسبة كبيرة. لكن هذا غير مؤكد، إذا نظرنا -بتشاؤم- إلى انعدام الأمان، وفوضى السلاح التي لن تنتهي في يوم وليلة، ويمكن أن تبني السلطة المقبلة (الأسد، أو غيره) ناطحات سحاب مسبقة الصنع في أسبوعين، بحسب مقاييس المعجزة الصينية، لكن النمو لن ينعكس على الإنسان بالسرعة نفسها، وهذا هو السؤال.
فتشغيل مصنع، بغض النظر عن تكلفة إنشائه، يحتاج إلى اليد العاملة المؤهلة، وعلى الرغم من اعتزازنا بقدرات الإنسان السوري، إلا أن الأمر يحتاج إلى تبصر، فكل فرصة عمل تحتاج إلى استثمار لا يقل عن 20 ألف دولار؛ ما يعني أن تشغيل مليون شاب وشابة، فقط، يحتاج إلى 20 مليار دولار. في كم من الوقت ستتوفر هذه المبالغ، إذا علمنا أن الرقم التاريخي لاحتياطات سورية من العملات الصعبة، بالكاد وصل إلى 23 مليار دولار قُبيل الثورة، لم يبق منها الآن، على الأرجح، سنت واحد، وأن إجمالي الناتج المحلي لم يتعدَّ 64 مليار دولار عام 2011.
هنا لا نتحدث عن المدارس (سبعة آلاف مدرسة مدمرة)، ومستلزماتها، ومحاولة إقناع المعلمين والأساتذة في المراحل الثانوية والجامعية، بالعودة إلى البلاد والمساهمة في بنائها، في أحوال عدم التأكد التي ستعيشها البلاد، بعد حالة الموت التي ستتجاوزها بعد قليل، أو كثير، من الوقت.
فتكلفة إعادة بناء البيوت، والطرق، والجسور، وإنشاء شبكات الطرق والمواصلات، ستكون مجرد “مزحة” مقارنة مع تكاليف إعادة إعمار المنظومة الصحية والتعليمية، كي تعود إلى العمل في وتيرة مقبولة على الأقل، بالمقارنة مع ماضي مجانية التعليم والصحة، التي كان يحسدنا عليها الأردني واللبناني، لناحية تكلفتها شبه المجانية، عمومًا.
إعادة الإعمار، وفق رؤية الأسد الابن، لا يمكن تمييزها عن بروباغندا “التطوير والتحديث”، التي “عهَّدت” البلاد إلى أقاربه وحلفائهم، فبعد 11 سنة من بداية حكمه، تعمق الوجه الليبرالي لحكمه، ماحيًا ما تبقى من مقولة “اقتصاد السوق الاجتماعي”، المحرفة عن رؤية “النائب الاقتصادي”، عبد الله الدردري، بتحويل الاقتصاد السوري من اشتراكي “100 بالمئة” إلى الاقتصاد الحر الرأسمالي.
نتيجة ذلك، ارتفعت الدخول والرواتب اسميًا، بينما تعمقت مظاهر الفقر، وازدادت ظاهرة ميل الطبقة الوسطى إلى الفقر، أو ما تبقى من تلك الطبقة التي بدأت تذوب في طبقة الفقراء، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. لا يخفى هنا ما كان لمكارثية المخابرات السورية من دور في إفقار جيوب السوريين وقلوبهم.
الآن، ومستقبلًا، هنالك تخوف من مكارثية جديدة في سورية (حدث ذلك في أفغانستان ضد طالبان، وفي العراق باجتثاث البعث وتفكيك الجيش العراقي).
المكارثية وأخواتها، في أفغانستان والعراق، ترافقت مع دعوات إعادة الإعمار، والنتيجة كانت فشلًا في إعادة إعمار البنية التحتية، وانهيارًا في مؤسسات البلدين، على علاتها، بل وفي مجتمعي البلدين.
ألمانيا نجحت في إعادة الإعمار حين تسامحت، وحين نجت بنفسها من تطبيق مكارثية أميركا، التي ظلت شبحًا إلى أن تقوض الاتحاد السوفياتي من الداخل، وانهار بفعل مكارثية الحزب الشيوعي.