على قدر ما تميل الحياة المعاصرة للتعقيد والمشكلات المركبة، على قدر ما نرى الناس تميل نحو السهولة والخيارات السهلة التي لا تحتاج إلى جهد نفسي وعقلي لتحديدها، بل إن الاستسهال يبدو هربًا من التعقيد القائم. وهذه مشكلة بملامح عالمية، لكن سوريًا، لدينا تاريخ في المسألة، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بموضوع العدو؛ فقد كان العدو في تاريخنا القريب خارجيًا دائمًا، سهل التحديد، وسهل التجييش ضده، ورص الصفوف لمواجهته، الاستعمار الأوروبي أولًا، ثم إسرائيل فيما بعد.
ومسألة العدو الخارجي الواضح (إسرائيل)، كانت قد سهّلت على “الأسدية” حربها المتواصلة؛ لتصفية خصومها السياسيين، الذين رفعتهم من خصوم سياسيين إلى أعداء وجوديين، منذ نهاية السبعينيات؛ لتشرِّع الإبادة السياسية والعسكرية لأي مظهر مخالف لها في سورية، ولكي تبني -بعدئذ- الفكر الممانع وقلاع المخابرات الممانعة، فوق حطام البشر، المهددين -دائمًا- بالخيانة والعمالة والمؤامرة، حتى يثبتوا براءتهم ويقدموا صكوك الغفران والالتزام بـ “الأسدية”.
من المشكلات التي صاحبت الثورة السورية منذ بدايتها، انعدام القدرة على تحديد الأسد كعدو أول وحربي ضد السوريين، ففي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه أدواته الحربية، ضد الثائرين عليه، من الرصاص إلى المدفعية وصواريخ السكود، ومن الطيران والبراميل إلى الكيماوي؛ بقيت أجزاء وازنة من المعارضة تعدّه خصمًا سياسيًا لا عدوًا يقتل الشعب، وهذا ما ساهم في ظاهرة “الانشقاقات” السياسية والمدنية في المواقف من النظام، وساعد في تشرذم المعارضة؛ الهزيلة أصلًا، وقوَّى من موقف الأسد ضد كل خصومه المتصارعين بينهم، أكثر من صراعهم معه معظم الأحيان.
النظام لم يكن الأسد وحاشيته ومخابراته وحزبه وحدهم، بل كان الدولة الأسدية المتغلغلة في مجمل قطاعات المجتمع، والتي يتبادل معها النظام المصالح والخدمات، وفي الوقت الذي كان فيه النظام يتعامل -ببساطة ووضوح- مع الدولة على أنها “سورية الأسد”، بقيت المعارضة في إطار التمييز بين النظام والدولة، بل تجنّدت أقسام وازنة منها للدفاع عن “مؤسسات الدولة”، في معرض دفاعها عن “الجيش العربي السوري”، والذي تطاول عند بعضهم للدفاع عن “مؤسسة” الأمن، بوصفها إحدى مؤسسات الدولة، وفي الوقت الذي حدد فيه الأسد أعداءه بوضوح، ومنذ البداية، وذلك في خطابه أمام مجلس الشعب في 30 آذار/ مارس 2011، عندما قال بالحرف “إذا أردتم المعركة فأهلًا وسهلًا”؛ ليقصد كل من أراد الثورة ضده، أي الشعب، بقيت المعارضة تراوح في معاركها الجانبية بين من يدافع عن حق التسلح، ومن يرفض الثورة المسلحة، بين من يدافع عن حق الإسلاميين في الوجود والحضور والفعل، ومن يرفض “أخونة”، ثم “أسلمة” الثورة، وذلك -كله- كان يحصل، بينما النظام يقتل الجميع تحت مسميات عدة كالمندسين والمسلحين، ثم الإرهابيين فيما بعد. أما الناس العاديون، فقد بقي جزءٌ كبير منهم، وفي مختلف أنحاء سورية، أقرب إلى المراهنة على بشار، وتصديق رواياته التافهة حول المؤامرة، وأقرب إلى عدم تصديق أن الجيش يقتل المدنيين، (نفسيًا يمكن القول: إن الدافع إلى عدم التصديق مُحمَّل على الخوف العميق، والذاكرة القمعية، والرغبة في عدم التصديق معًا)؛ ولذلك كله، كانت مسألة تحديد الأسد كعدو للشعب؛ بعد شرذمات المعارضة وانشغالها بالمعارك الجانبية فيما بينها، من أصعب المهمات، التي مازالت -حتى اليوم- تزداد تعقيدًا، وتحرم السوريين من تشكيل البديل الملائم.
يمكننا القول: إن فكرة العدو القريب، أو الداخلي، لم تتجلّ في تاريخ “الدولة” الأسدية، إلا على شكل خيانة أو عمالة خارجية، فالعدو الداخلي كان يسهل تحديده وعزله على أسس أسدية، ترى الوطن كتلة مصمتة تسير خلف القائد المفدى، والتي يمكن على أساسها أن يصبح كل من خارج تلك الكتلة خارجًا عن الوطنية وعميلًا للعدو الخارجي، المتمثل بإسرائيل والامبريالية، ولذلك أصبح لدينا -ببساطة- 13 مليون سوري بين نازح ولاجئ، عندما خرجوا عن “الوطنية” التي حددها الأسد، وأصبحت سبع محافظات سورية مدمرة كليًا أو جزئيًا، بوصفها مناطق حاضنة للخونة والعملاء التابعين للعدو الإسرائيلي والأميركي و”الرجعية” الخليجية، كما يسميهم إعلام النظام.
في سياق العدو الخارجي، ربما يمكننا وضع قائمة طويلة من الدول التي تراوحت مواقفها من التأثير السلبي إلى الانتهازية والاستغلال القميء، وصولًا للعداوة المطلقة والعدوان الصريح، لكن يجدر بنا وضع ملاحظتين حول هذا الموضوع:
الأولى، هي أن العدو الأول والأخطر على السوريين، والمستقطب لجميع من سبق ذكرهم هو نظام الأسد، وكل ترسيمة أولويات، تضع أي من تلك الدول قبل النظام هي في الواقع تمارس تحييدًا للمشكلة الأساسية، وتبريرًا تم استخدامه، وما زال، من العديد من “المعارضين” لعدم إدانة الأسد صراحة، والوقوف الخجول معه “في خندق واحد” ضد الثورة، التي تم تحميلها وزر الخراب الحاصل في سورية، وعدّها ثورة إسلامية بأجندات خارجية، بعيدة عن الصورة المثلى للثورات المُتخيلة من قبل هؤلاء، فترى جُلَّ حديثهم هو عن إدانة عسكرة الثورة، وعن قطر والسعودية وتركيا والإسلاميين والامبريالية…، باختصار عن كل شيء إلا نظام الأسد وحلفائه، الذين يمرون؛ أحيانًا، في الكلام كلزوم ما يلزم.
الملاحظة الثانية هي ضرورة التمييز بين الأسد وحلفائه المباشرين، مثل: إيران وروسيا وحزب الله، وبين جميع الآخرين الذين كانوا بمنزلة حلفاء موضوعيين ومفيدين للأسد، أكثر من كونهم “أصدقاء” الشعب السوري، أو حلفاء للثورة؛ ولذلك، لا يجب أن ننسى أن الأسد وحلفاؤه هم سادة المحرقة السورية، ومرتكبو أكبر الجرائم وأفظعها وأوسعها نطاقًا في سورية، وهم -أيضًا- المسؤولون المباشرون عن التدمير والتهجير لما يقارب نصف الشعب السوري.
بعد أن انفتح الداخل على الخارج، وأصبح الخارج؛ دولًا ومنظمات وأفرادًا، في الداخل، ربما لم يعد يجدر بالسوريين الأخذ بالطريقة الأسدية في تحديد العدو، عبر نقلها إلى علاقة بينية بينهم، الأجدر هو نقل العلاقة بين السوريين من العداوة الوجودية، نحو الخصومة السياسية والاعتراف بالاختلاف؛ فالطريقة التي سهّلت على الأسد ووريثه الانتقال من تصفية الخصوم نحو تصفية الشعب بوصفه عدوًا، لن تؤدي اليوم إلا إلى جعل الجميع أعداء للجميع، مثلما لن تؤسس سوى لاستكمال الخراب الذي بدأه الأسد، بخراب جديد ومديد.