يعود لبنان لواجهة الأحداث وإلى تجاذباته الداخلية بين المكوّنات الطائفية والسياسية، والتي استجدت -الآن- بمعطيات جديدة، ودائمًا النظام السوري خلف الحدث، بل ومحوره الرئيس، فبعد أن أصدر قاضي التحقيق اللبناني قراره الاتهامي بحق ضابطين في المخابرات السورية، بالضلوع بالتفجيرات الإرهابية التي ضربت مدينة طرابلس اللبنانية، في 23 آب/ أغسطس 2013، واستهدفت مسجدي السلام والتقوى، وأدّت إلى مقتل وجرح المئات من المدنيين، حيث خرجت بعض الشخصيات اللبنانية؛ لتطالب بطرد السفير السوري من لبنان، وتقديم شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة بحق النظام السوري.
لبنان الذي حُرم حتى اللحظة من تثبيت أركان الدولة، والتعبير عن نفسه كيانًا مستقلًا، وصاحب رأي وقرار خاص، بسبب تدخل النظام السوري منذ سبعينيات القرن الماضي، منها ثلاثون سنة، كان موجودًا -خلالها- وفاعلًا بقواته على الأرض، وشريكًا أو طرفًا في الحرب الأهلية الدامية التي شهدها لبنان، وللأسف، فإن هذا البلد قد دفع فاتورة كبيرة من الدم؛ لأجل الحفاظ على هويّته التي تميّز بها، وواجه آلة الأسد الحربية وأدواتها طوال عقود، لكنه استُنزف، وقد وقع في فخ الطائفية مبكرًا، والتي بدورها أنهكته، وتركته عُرضة لتجاذبات إقليمية ودوليّة، ومن الواضح أن أكثر من استفاد منها هو النظام السوري وإيران وإسرائيل، وكان الشعب اللبناني أكبر الخاسرين، فعدا عن الدم الغزير الذي نزف في مناطقه كافة، ومن جميع طوائفه، خسر -في النهاية- أركانه كدولة، فلا رئيس للجمهورية، ولا حكومة فاعلة، بل موجودة لتصريف الأعمال، وأيضًا البرلمان معطّل، ومن ناحية أخرى، فإن الجيش معرقل بوجود ميليشيا حزب الله، وأمنه الداخلي مخترق وعاجز، وحتى مطاره الدولي محاط بأمن هذه الميليشيا.
هكذا تبدو قتامة الصورة، والتي يمكن رسمها بعناوين عريضة لهذا البلد، من الناحيتين: السياسية والأمنية، ويمكن القول: إن انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، لم تهزّ أركان نظام أمني عميق يحكم سورية فحسب، بل أظهرت أيضًا مدى هشاشة النظام اللبناني، وحجم الخلل الذي تعيش فيه مؤسساته السيادية، هذا الخلل الذي جعل إدارات الدولة، لا تستطيع تطوير أدواتها بوجه مستجدات طارئة، ولعل عام 2005، كان المرآة الأبرز لتلك الحالة، حيث بيّن حجم تآكلها من الداخل، وبيّن هول الصخرة التي كانت جاثمة على صدر هذا البلد، ومستوى الاختراقات الموجودة فيه.
جرائم موصوفة وصفقات سياسية
فاغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005، وما تلاها من اغتيالات لشخصيات سياسية وأمنية، مترافقة بتفجيرات متنقلة في الأحياء والمناطق المختلفة، ومع تراخي المجتمع الدولي مع جرائم النظام السوري، والاكتفاء بإخراج جيشه من لبنان، وعلى الرغم من أنه مكسبًا كبيرًا لهذا البلد وشعبه، إلّا أن تضخُّم ميليشيا حزب الله، وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى، وتكبّرها على الشعب والدولة اللبنانية، جعلت هذا البلد يهنأ باستقلاله الثاني، كما أطلق عليه اللبنانيون، ويأتي اكتفاء المجتمع الدولي بخروج جيش النظام السوري منه، والقبول ببقاء أذرعه الأمنية عبر هؤلاء الوسطاء اللبنانيين، يشبه -إلى حد ما- اكتفاء المجتمع الدولي بتسليم هذا النظام سلاحه الكيماوي سنة 2013، والصمت على بقية أركان الجريمة بقتل الأبرياء، والحالتان، وإن بدا فارق الزمن بينهما عدّة سنوات، تعطيان مؤشرًا إلى حجم الكارثة في إدارة القانون الدولي نفسه، الذي يُفترض أنه وُجد للمساعدة في وقف الجريمة الدولية المنظمة، بحق المجتمعات والأفراد.
فلبنان الذي خُدع دوليًا وبالذات أوروبيًا، على أنه حالة استثنائية بمنطقة الشرق الأوسط، سياحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وبالنتيجة سياسيًا، ولكون رئاسته مسيحيّة، اعتقد بعضهم بأن الدول الكبرى ستمنع أي انتهاك لسيادته من ديكتاتوريات المنطقة، وإذ به يدفع الثمن الأكبر، بل إن الجميع أخذ يُفرّغ احتقانه فيه؛ للحصول على مغانم في أماكن أخرى وكأنه مكسر عصا، فالجرائم التي ارتُكبت قبل تفجير المسجدين بطرابلس، ربّما تكفي كل جريمة منها لجرّ مرتكبيها، ومن وارءهم، إلى المحاكم الدولية، وخاصة أنها جرائم إرهابية، معدّة لأهداف أكثر خبثًا وشرًا، بحيث تُؤدي ارتداداتها إلى احتقان طائفي، قد يُولع شرارة حرب أهلية في أيّ لحظة، كاغتيال كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد ورشيد كرامي ورفيق الحريري، وعدد كبير غيرهم بالنسبة لبلد صغير، لكن بالعودة إلى اكتفاء المجتمع الدولي بخروج جيش النظام السوري من لبنان، في إثر اغتيال الحريري، سنجد أن الأمر المثير، هو ما أقرّه مجلس للأمن الدولي بإنشاء محكمة خاصة بهذا الاغتيال، ولكنها مع الزمن دخلت في حالة موت سريري، على الرغم من كثافة الأدلّة المتوافرة، وهذا يُقصد به بالمعنى القانوني والأمني والسياسي، ترك الباب مشرّعًا لجرائم أخرى، هدفها سياسي، من خلال اختراق أمني، وعدم وجود محاسبة قانونية.
تاريخ سماحة يشفع له وتاريخ طرابلس في الميزان
أهم دليل ملموس على ذلك ما أقدم عليه الوزير اللبناني السابق، ومستشار بشار الأسد، ميشال سماحة، حين أدخل المتفجرات إلى لبنان بتنسيق أمني مع المخابرات السورية، ومع جهات سياسية سورية عالية المستوى، وقد اتضح ذلك بالصوت والصورة، في عام 2012، عندما أُلقي القبض على الرجل؛ ليعترف بأكثر مما ظهر في شريط الفيديو الذي التقطته كاميرا المراقبة، بأن المستهدف شخصيّات ومواقع لبنانية، هدفها إطلاق فتنة طائفية تؤدي إلى حرب أهلية. لم يقم المجتمع الدولي بالضغط على النظام السوري؛ لحماية هذا البلد من الإرهاب المنظم الذي يتعرّض له، بل كان القرار الذي صدر عن محكمة التمييز اللبنانية، في كانون الثاني/ يناير 2016، مثيرًا للاستغراب والسخط، فهو يقضي بإخلاء سبيل سماحة، حينها رحّب حزب الله بذلك، بينما أدانت القرار القوى الأخرى الفاعلة كافة، لكن أهم ما في الموضوع أنه في قرار إخلاء السبيل هذا، كانت تعبيرات المحكمة هي المدهشة، حيث قالت إن سماحة “ليس بمجرم خطِر، وأعماله بقيت أعمالًا تحضيرية”، لتضيف استهتارًا آخر بدم الناس، حين وصفت المجرم بالقول: إن “تاريخ المحكوم عليه العلمي والثقافي والسياسي يؤكد أنه ليس إرهابيًا”.
ويأتي -الآن- الكشف عن خلفيات جريمة تفجير المسجدين في طرابلس، من خلال محكمة لبنانية أُخرى، أعطت قرارها الاتهامي بحق ضابطي استخبارات سوريين، وقد أضافت إليه طلبًا بالتحرّي عن الشخصيات القيادية السورية، التي أعطت الأوامر بتنفيذ ذلك العمل الإرهابي في المسجدين؛ ليطلب -كذلك- أشرف ريفي، وزير العدل المستقيل، من لبنان الذي لا يملك استقلالية مؤسساته السيادية، بطرد السفير السوري، ورفع شكوى إلى الأمم المتحدة، فيبدو الطلب، وكأنه كشف آخر عن جريمة أكبر ارتُكبت بحقه، وهي أنه بلد مكشوف على الاتجاهات والرياح كافة، فيتّضح أنه كيان بلا رأس ولا أطراف ولا أجهزة حيوية ضرورية لحياته، وخلاصه ليس بطرد سفيرٍ أو منعه من التنقل، بل بخلاص السوريين من هذا النظام، وبتفكيك المنظومة الأمنيّة التي ركّبها فيه، واستغلّتها إيران، ألا وهي ميليشيا حزب الله، بما تقوم به من دور تحطيميّ للسيادة الوطنية اللبنانية، لصالح مشروع غير وطني، مرتبط عبر النظام السوري بالمصالح الإيرانية وحدها.