ليست الطائفية تعدادًا سكانيًا، ولا انتماء فئويًا، ولا اتجاهًا فكريًا أو عقديًا، وإن توفرت فيها هذه الأمور، إنما هي موقف اجتماعي وأخلاقي يتميز بسمات ثلاث: جهل مركب، وأنانية ضيقة، وإحساس إنساني قاصر؛ ذلك أنها تنبع من ذاكرة انتقائية، وغياب محاكمة عادلة، ونزوع نحو انتقام كيفي، وتأويلات تاريخية وفكرية سطحية.
ومع الرقي النسبي لفكرة الأمة، ليس المقصود هنا الانتصار لها، لأنها بحد ذاتها تحمل تأويلًا أيديولوجيًا، إلا أن فكرة الطائفة أو الجماعة لم تنبع تاريخيًا من تجربة واسعة وإدارية، إنما نبعت من تجربة ضيقة ومعارضة؛ ولذلك، ثمة عجز عضوي فيها عن الارتقاء ولو قليلًا. ولعل الفارق الرئيس بينها وبين فكرة الأمة أنها عاجزة عن تأسيس ثقافي وتأصيل اجتماعي لرؤاها.
السلطة الطائفية لا تتعلق بالضرورة بانتماء الحاكم، إنما بسياسة النظام الحاكم، وإن كان انتماء الحاكم يسهل لها الهيمنة وامتلاك زمام المجتمع بجوانبه، وخاصة عندما يتحول الانتماء الطائفي إلى امتيازات أمنية وإدارية واحتكارية، قد تصل إلى درجة الهيمنة حتى على الجوانب الثقافية والإبداعية، مما يؤدي إلى تحجيمها وانحدارها. ويقتل روح المنافسة الحضارية في المجتمع.
والسلطة الطائفية لا تعتمد على (طائفتها) فحسب، إنما تتوسل لسيطرتها قوى خارجية داعمة ماليًا وعسكريًا، هذا ما يجعلها سلطة غير أمينة، ولا يتجاوز فيها البعد الوطني الشعارات الكاذبة، التي تستخدم من أجل تصفية أي بوادر معارضة فحسب. إنها بارتباطها بقوى خارجية ترتهن لسياسات هذه القوى، وتستقوي بها لتستبد بالأغلبية، وتنشر الفساد في المجتمع، وتضبطه ببطش أمني لا هوادة فيه.
أما الحس الطائفي، فينقاد بسهولة لمآرب هذه السلطة، ليس من أجل الامتيازات وحسب، وإنما -أيضًا- لأنه ينبني على ذاكرة انتقائية، تختار من الماضي حوادث وصراعات معزولة عن شرطها الزمني والتاريخي، ومؤولة في إطار من المظلومية الفريدة، وعبر اتهام عام لا يقتصر على السلطة الحاكمة في تلك الحوادث. وتقوم السلطة -أيضًا- بنشر الريبة والخوف من خلال تسهيل بعض الارتكابات العنيفة باسم الطائفة، والتي تجعلها رهينة الخوف من زوال امتيازاتها وتعرضها للانتقام؛ ما يجعلها في معادلة حياة أو موت، وكأن لا خيار لها سوى أن تكون ظالمة أو مظلومة؛ ما ينسف فكرة التعايش الحقيقي، وما يتعلق بها من عدالة وديمقراطية ومدنية وإنسانية، وهنا، نجد أن الحس الطائفي عاجز عن بناء وعي تاريخي، واستراتيجيات مديدة، ويستغرق -بدلًا من ذلك- في تصعيد حالة الرعب، والاعتماد على تكتيكات مرحلية، أشبه باقتناص الفرصة التاريخية، دون التفكير بالمآلات المستقبلية البعيدة.
إنها سلطة غير منطقية، وتفتقد القوة النابعة من الشعب، ولا يمكنها ان تسير في منهجية بناء على أي صعيد كان. إنها تنحط بالدولة إلى مستوى الإقطاعية، وتحول نظام الحكم من آلية لتسيير المجتمع بما يفيده، إلى نمط مافياوي فاسد، يختلط فيه المال بالدم. والمجتمع في ظلها يتخلف عن كل أوجه الحضارة وسبل التقدم، إن لم ينحدر إلى الأسفل باضطراد، إنها بقدر تحكمها وامتدادها زمنيًا، تبعث الشروخ في النسيج الاجتماعي، فتفتته عموديًا وأفقيًا، وتحل طبقات محل طبقات، إلى أن يتحول المجتمع إلى قنبلة موقوتة، مسمار أمانها بيد هذه السلطة؛ ما يسهل لها التصرف في مصائر الشعب وابتزازه وإفقاره، ولا تتورع عن تفجير القنبلة إذا شعرت بالتهديد. لأن تشظي البنية الاجتماعية وتفتيت المجتمع إن لم يبق السلطة بيدها، فعلى الأقل سيجنبها المحاسبة على ما اقترفته خلال سيطرتها.
هذه البنية الطائفية كانت الموئل الأهم للاستعمار قديمًا وحديثًا، إذ يدرك المستعمرون أن معظم الطوائف هدفها الرئيس مواجهة الأمة لصالح جماعة، ولطول عهدها بهذه الغاية تتحول عملية الانتقام إلى جزء من عقيدتها، تفصح عنها في شعاراتها عندما تمتلك القوة والسلطة، وهي الوحيدة القادرة على لجم روح التوثب في الأمة، بإشغالها في صراعات داخلية، تدمر الإنسان والبنيان والشجر والثروات. إنها تحول المجتمعات إلى قطاعات فاشلة متناحرة، مهما تعاظم خطرها، لن يبلغ حد المواجهة والتهديد الوجودي، أو حتى أبسط وجوه المنافسة والنفوذ. إنها المحمل الأهم للسياسات الاستعمارية، لتبقى مهيمنة وقادرة على التحكم بالمجتمعات القريبة جغرافيًا، والتي شكلت تاريخًا من الجراحات المتبادلة عبر التاريخ.
وتتفاقم أزمة الطائفية عندما تنحدر الأمة إلى مستوى التعاطي الطائفي في ردة فعلها؛ ما يجعل الأفق ملبدًا وعسيرًا، وينذر بمزيد من الألم المتبادل عبر أدوار مرحلية، ذلك أن مواجهة الطائفية تتطلب وعيًا استثنائيًا لا يتساهل معها، ولكن عبر عملية تعاطي إنسانية عادلة ومتفهمة، تفكك الصراع على أسس جنائية، وليس عبر تأويلات عقدية او تاريخية.
بمعنى آخر إدراك أن الصراع الأيديولوجي لا يمكن أن يؤدي إلى مجتمعات ناهضة ومستقرة، وأن الانتقام دومًا يفتح بوابة الانتقام المضاد. ولعل أهم درس تاريخي يجب الانتباه إليه، هو قبول التعبير الخاص في العقيدة والفكر، لأن اضطهاد الآخر يؤدي إلى تقوقعه على ذاته، وتنمية أفكاره الخاصة ضمن إطار من العتمة والسرية، وهو ما يؤدي -بالضرورة- إلى نشوء الفكرة الطائفية التي تختزن الآلام والأحقاد، وتتصاعد تحت جلدتها الحاجبة رغبات الانتقام العشوائي، ولا تتيسر لها سبل النضج وفهم طبيعة الصراع والاختلاف؛ بسبب هذا التداول الداخلي بحد ذاته؛ فتتضخم المظلومية، وتتجذر رؤية الآخر كشر مطلق، وتتناسل الأوهام والخرافات والكراهية في خليط مؤذ، يتحول إلى هوية وجودية غير قابلة للنقاش، هوية استلابية، يتم توارثها بحرص شديد تنقل (الجو الخاص) عبر الزمن، دون أي تقدير للتحولات التاريخية والمعرفية والفكرية والحقوقية.
وتقترن برغبة تصفية الآخر (المهيمن والحاكم خاصة)، دون تفريق بين الرأس والقاعدة، هذه الرغبة التي تتحول إلى شهوة للقتل الواسع بمجرد بزوغ بوادر صراع؛ قتل لا يستثني فئة عمرية أو اجتماعية أو جندرية، حرب عدمية لا ترى سوى في الاستئصال حلًا؛ لذلك، نجد أن اختلافًا هامشيًا تم التفاهم حوله بين رجلين في أعماق التاريخ، يتحول إلى صراع دام يستغرق قرونًا كثيرة، مليئة بذكريات الدم المسفوح.
بعد كل هذا الدم عبر التاريخ، وصولًا إلى حاضر كارثي، هل نُدرك أن المجتمعات لا يمكن أن تستقر وتنهض إلا بهوية إنسانية جامعة، تنظر إلى الإنسان بوصفه إنسانًا بالمقام الأول، وليس فكرة مختلفة وحسب؟ بوصفه إنسانًا يحاسب أو يقدر على سلوكه وممارساته، وليس فكره المختلف أو إيمانه الخاص.