التفجيرات “الخماسية” الإرهابية، التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في سورية، أمس (الاثنين)، وفي مناطق تخضع لسيطرة “جيش النظام الأسدي ” كليًا، باستثناء “الحسكة”، التي يتقاسم فيها السيطرة مع ميلشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية، لا تُثبت بأن “سورية الأسد” الحالية، هي دولة فاشلة قولًا واحدًا، بل أيضًا تُؤشّر إلى أن “سورية الفيدرالية” المستقبلية، كما يخطَّط لها، لن تكون أقل فشلًا، سواء بقي (داعش)، كتنظيم يعمل “فوق الأرض”، أو انتقل إلى العمل السري “تحتها”.
لم تعد”سورية الأسد” بنسختها الحالية “نظامًا”، ولعلها لم تكن كذلك أصلًا؛ ذلك أنها كانت أقرب إلى “المافيا” في عهد “الأسدين”، لكنها فقدت مركزية “العراب الأب” تدريجيًا، منذ أن زج بشار الأسد بجيشه، في مواجهة الثورة عليه، ولصالح “أمراء حرب” أفرزهم ذاك الجيش، مثل العقيد سهيل الحسن، قائد قوات (النمر)، التي تحمل لقبه شخصيًا، أو من المدنيين، كما في ميلشيا “صقور الصحراء”، التي أسسها ومولها رجلا أعمال من آل “جابر”، أو من خليط بين مدنيين وفلول شبيحة، وعسكريين مُسرحين وحاليين، مثل ميليشيا “الدفاع الوطني”، وهذه اتخذت شكل “الدفاع الذاتي الطائفي”، وفق الانتشار السكاني لكل طائفة، “علوية، مسيحية، درزية، سنية”، وكذلك هناك “كتائب البعث”، و”القومي السوري”، و”العشائر المسلحة”، وأجهزة الأمن، وغيرها. وجميعها يعمل داخل البيئة الموالية للأسد، بالتنسيق وتقاسم النفوذ، أو بالتصادم المسلح أحيانًا، على خلفية ما أفرزته “الحرب” من شبكات مصالح، تتنافس على الحصص والمنافع المادية. لكن جميعها متهم بالفساد، في نظر الموالين من المواطنين العاديين، الذين يرتفع صوتهم مع كل تفجير، ينجح منفذوه باختراق تلك القوى وحواجزها ودورياتها، ومن ثم الوصول إليهم، دون أن يتجاوز سقف احتجاجهم المُطالبة بإقالة المحافظ، ومحاسبة “حماتهم” الفاسدين، مع الحرص على تجديد ثقتهم بشخص بشار الأسد، لكن على أمل أن يكون “المخلّص” لهم، من الميليشيا الموالية له و”تغولها” عليهم هذه المرة، بعد سقوط ذريعة حمايتهم من “الإرهابيين التكفيريين” بالفشل التراكمي المتكرر، وعلى الرغم من معرفتهم الضمنية بفقدان الأسد سيطرته على ميليشيات، باتت تشعر بأنها هي من يحمي “الرئيس” لا العكس.
ثم هناك المليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، والتي تتلقى تعليماتها وأوامرها مباشرة من القادة الإيرانيين، وتتبادل الكراهية مع بقايا قوات الأسد، بسبب سلوكها الفوقي، ومع الموالين عمومًا لأسباب مذهبية، وللمفارقة يمكن القول، أن الموقف الكاره للوجود الإيراني في سورية، يكاد يُوحّد جميع مكونات المجتمع السوري، وعلى جانبي المولاة والثورة.
بالمقابل، لا تبدو الصورة أفضل، في مناطق سيطرة مقاتلي المعارضة، حيث المدنيين “كفروا” بفساد بعض الفصائل، على طريقة ميليشيا الأسد، من تجارة نفط، وتهريب، واحتكار مواد، وتخزين أسلحة بهدف المتاجرة بها، والقيام بعمليات خطف وإخفاء قسري، وافتتاح “مفارز” أمنية لكمّ أفواه المعترضين، أو ملاحقة الخصوم والمنافسين، علاوة على ضيقهم بتسلط فصائل أخرى “إسلامية”، على خصوصيات ونمط حياتهم اليومية، وتوحّدها في ملاحقة الناشطين، وفي “تحريم” أفكار الديمقراطية، والدولة المدنية، إضافة إلى تناحرها المرتبط بتعدد واختلاف مرجعياتها الخارجية. لكن لا تزال أغلبية السكان ترى في الأسد وميليشياته وبراميله المتفجرة عدوها الأول، في حين “تتشاطر” مع “مؤيديه” انتظار “حل ما”، ولا فارق لديهم إن كان سياسيًا أم عسكريًا.
المشكلة أن استمرار الأسد يعني تنامي “المظلومية السنّية”، وبالتالي أن (داعش) باقٍ كفكر تفجيري، ويتمدد إلى عموم المنطقة، بينما “سوريا فيدرالية” تعني استفحال الفشل، وتوالد الحروب داخلها، وضد بعضها بعضًا، عرب ضد أكراد، وأكراد ضد آخرين منقسمين إلى نحو ثلاثين حزبًا، وموزعي الولاء بين أكراد تركيا وأكراد العراق، وفصائل متشددة في مواجهة معتدلة، وهؤلاء ضد “سورية المفيدة” للأسد، والجميع انعكاس لصراع إقليمي – دولي على سورية، وهذه يحتاج خلاصها كدولة فاشلة كليًا، إلى تفاهم العرب المُختلفين على كل شيء، بدءًا من أولويات أمن أنظمتهم الداخلية، مرورًا بالموقف من رحيل الأسد نفسه؛ خوفًا على رؤوسهم، وليس انتهاءً بالموقف من المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، وأولوية وكيفية مواجهته، كما يحتاج الخلاص السوري إلى “توافق دولي” بدلًا من النزاع، يتطلب بدوره توفير ضمانات “معقدة وصعبة” لمصالح جميع الأطراف المنخرطة في المواجهة، ويُمهد لقرارات حاسمة في مجلس الأمن، يضع سورية تحت “وصاية عربية مثلًا” تقود مرحلة انتقالية، يُفضل أن يُستبعد منها السياسيون، لصالح مجموعة منسجمة من “التكنوقراط”، تتمتع بحماية ومؤازرة عسكرية من المجتمع الدولي، أو من “الدول الراغبة”، وهذا أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى شبه “معجزة” فحسب.