يعتقد بعضهم، وهم كثر، أن الحكم في سورية الجديدة، يجب أن يكون أو “يعود” للأكثرية، ويذهبون بذلك إلى أن المجتمع السوري منقسم، ليس على أساس سياسي، وإنما على أساس ديني ومذهبي، ويجب أن يحكمه “كبير القوم”، أو “كبيرة الطوائف”، أو كبير القوميات أو العائلات، أو كبير أمراء الحرب والبنادق.
ولو تمعنا في هذه المقولة المتداولة بكثرة -هذه الأيام- وعلى ألسنة بعض القادة في المعارضة السورية، السلمية والمسلحة، لوجدنا، أولًا وقبل كل شيء، أنها مقولة متهافتة وثأرية ومتعالية، وأقل ما يمكن أن يقال فيها إنها مشوَّشة ومشوِّشة وفاسدة من حيث المبدأ، وهي مقولة طائفية تقسيمية غير وطنية ولا منصفة، وخاضعة لشعور الغبن الذي لحق بهذه الأكثرية منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي -قبل هذا وذاك- تتحدث -عمليًا- عن سورية القديمة وليست الجديدة.
وهي “غير وطنية” لأنها ترتد إلى “هويات” ما قبل الدولة الوطنية التي لن تكتفي بتمزيق التراب الوطني، بل ستفرّط –حتمًا- بوحدة الشعب، وتفرّق أبناء الوطن الواحد، وتميز بينهم بحواجز وهمية مبنية على أساس الانتماء الديني، تشبه إلى حد كبير أنظمة الديمقراطية التوافقية الطائفية، وإلى حد أكبر أنظمة “الاستبداد الوطني” وسياسة الأحزاب الشمولية التي عانينا منها كثيرًا، والتي كانت تدّعي –أيضًا- أنها أكثرية 99.99″” بالمئة.
إن سيادة “الأكثر” لا تختلف في شيء عن سيادة الأقوى واستبداده؛ سواء أكانت قوته عضلية أم عددية “تناسلية”؛ فهل نستطيع بهذا المفهوم أن نبني دولة؟ وهل يقبل أصحاب هذا الرأي أن تحكمهم أكثرية قبلية أو عائلية؟ أو أن تحكمهم غريزة الانتماء إلى القطيع وليس إلى الأرض، وغريزة الانتماء إلى المفتي وليس إلى القانون!؟ وماذا تفيدنا الأكثرية إذا كانت ستمارس علينا ما مارسته أنظمة الاستبداد والطغيان والقهر؟ ألم يكن حكام مصر من الأكثرية؟ وليبيا وتونس والجزائر واليمن، وغيرها من الأنظمة العربية، في مشرقها وفي مغربها، أليسوا من هذه الأكثرية؟
لا شك في أهمية الدين والانتماء الديني في حياة الأفراد والجماعات البشرية، غير أن الانتماء الوطني ومفهوم المواطنة وسيادة القانون، تظل هي الحامي والأساس الوحيد الذي يمكن أن تُبنى عليه المجتمعات الحديثة.
ثم إن مقولة الأكثرية وعلاقتها بالحكم، مقولة سياسية في الأصل وليست ديموغرافية إحصائية أو عشائرية أو دينية؛ وهي مقولة مبنية على أساس الفعل السياسي وتأثيره داخل المجتمعات المدنية المنظّمة، وتتشكل من جرّاء هذا التفاعل المجتمعي والبرامج السياسية على أوسع نطاق، ومن خلال الاختيار الحر المبني على العقل والإرادة الحرة، وليس على أساس ديموغرافي بيولوجي “نسل وتكاثر وعلاقات دم وغرائز”؛ فالدين يُفرض علينا جميعًا بحكم الولادة، ولا خيار لنا فيه؛ تمامًا كما يُفرض علينا الانتماء إلى القبيلة والعشيرة والأسرة، الذي يكون الانتساب إليها مبنيًا على صلات الدم، ولا مكان فيه للاختيار؛ أما الأكثرية فلا يمكن أن تكون أو تتشكل إلا من خلال هذا التفاعل السياسي “الفكري والثقافي”، وعلى أساس الاختيار والإرادة الحرة للأفراد والجماعات المنظَّمة، وهي تعمل دون هوادة لتحقيق مصالح ومكتسبات الشعب ومصلحتة الوطنية العليا، ولا يمكن أن تستمر إلا من خلال طرح وإنجاز برنامج وطني شامل؛ يعمل على/ ومن أجل السوريين جميعًا، بلا تميز ديني أو مذهبي أو عرقي أو جنسي أو حتى حزبي.
أي أن الأكثرية هي أولئك المواطنون “كاملو الحقوق والواجبات” الذين يعيشون في دولة واحدة، يحكمها قانون واحد “دستور”، ويمتلكون مشروعًا وطنيًا ديموقراطيًا جامعًا، وينتخبون برلمانًا يمثلهم، ورئيسًا يحمي وحدتهم ودستورهم، ويعمل على إنجاز هويتهم الوطنية والثقافية الجامعة، أساسها حق الانتماء السياسي والمواطنة والحرية والمساواة بينهم. وقد تتحول هذه الأكثرية السياسية إلى أقلية، فهي نسبية ومتغيرة وتبادلية، وليست “أبدية” كما نجدها في الأكثرية العددية، دينية كانت أم عشائرية أم عرقية. علينا أن نتخلص نهائيًا من فكرة “الأبد”.