أدب وفنون

الموت والعذراء سؤال الضحية ومصير الجلاد!

أعادت دار “المدى” إصدار مسرحية “الموت والعذراء” للكاتب التشيلي أرييل دورفمان، ترجمة علي كامل. كنت قد شاهدت هذه المسرحية منذ سنوات على خشبة القباني في دمشق، حيث لعبت دور البطولة فيها الفنانة الموهوبة مي سكاف.

 

أذكر أن مي سكاف -حينها- لم تكن تمثّل، بل كانت تنزف روحها على الخشبة؛ كأنها فعلًا “باولينا”، الضحية التي تعرضت لأقسى أنواع التعذيب والاغتصاب على يد الطغمة العسكرية لنظام “بينوشيت”، بعد سقوط حكومة الليندي. (المفارقة أن جرائم بينوشيت باتت لا تقارن مع وحشية ما يجري في سورية).

 

بعد انتهاء العرض ذهبنا الى الكواليس، لنهنئ الممثلين بنجاح العرض؛ كنت بصحبة الصديق الكاتب إبراهيم صموئيل، الذي همس في أذن مي: “خفت عليك، وشعرت أن قلبك يمكن أن يتوقف عن الخفقان في أي لحظة”؛ تبسمت مي التي كانت تشعر بنشوة النجاح، ورهافة آلام الشخصية التي تجسدها، وطوقت إبراهيم بذراعيها امتنانًا على هذه الشهادة التي أفرحتها.

 

يقول المترجم علي كامل في مقدمة المسرحية: قرر أرييل دورفمان لحظة وصوله أميركا، لاجئًا، أن يجعل من كتاباته سلاحًا، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يومي، وساحة حرب ضد من شردّوه؛ من خنقوا صوت الحرية في بلاده؛ ضد وحشية وبربرية الاستبداد في كل مكان.

 

كان دورفمان يعمل -أيام حكومة الليندي الشعبية- أستاذًا محاضرا لمادة الأدب والنقد في جامعة تشيلي، ورُشح عام 1971 مستشارًا ثقافيًا ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس الليندي في قصر لامونيدا.

يقول دورفمان في احدى مقابلاته الصحافية: كان عليّ أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع، كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي وجودهم في الأوقات الطارئة، وكان اسمي واحدًا من تلك الأسماء، لكن أحدًا لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح! لم أفهم السبب مطلقًا!!

بعد ثلاث سنوات، وبطريق الصدفة، قابلت الشخص الذي كان مسؤولًا عن تنظيم تلك القائمة آنذاك، واسمه فرناندو فلوريس، في ذلك اللقاء -فحسب- عرفت سر بقائي حيًا !!

 

أخبرني فرناندو أنه شطب اسمي من قائمة المناوبة -تلك- في ذلك الصباح، وحين سألته عن السبب، صمت قليلًا وغار عميقًا، عميقًا، كما لو أنه أراد أن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانيةً.

 

أخيرًا، تطلع نحوي قائلًا: “حسنًا. كان لا بد أن يبقى أحد ما حيًا، ليروي ما حدث”.

إنه القدر اذن الذي تدخل في الأحداث على نحو ما؛ فأحال دورفمان الى راوي حكايات.

استوحى الكاتب عنوان مسرحيته الموت والعذراء من رباعية شوبرت الوترية التي تحمل العنوان ذاته، وهي قصيدة مغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740-1815. أما الثيمة فقد استقاها من خبر، كان قد قرأه في صحيفة تشيلية، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في الطريق العام، وكادت تودي بحياته، وفي أثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفًا إلى منزله، تحدث المفاجئة المروعة.

 

تميز الزوجة نبرة ذلك الرجل الغريب الذي يتحدث مع زوجها، وتكتشف أنها نبرة الرجل الذي عذبها نفسه، واغتصبها في السجن قبل سنوات؛ إذ ذاك تقرر سجنه في المنزل، ومحاكمته، من خلال انتزاع اعترافه الكامل بارتكاب تلك الجريمة، ومن ثم تحكم عليه بالموت.

تأمل دورفمان تلك الحادثة التي قرأها كخبر صحافي، وشعر أنها يمكن أن تكون نواة رواية دراماتيكية. بيد أنه كلما حاول أن يخربش على الورق بضع صفحات؛ لكي يغوص في موضوعه، كان يشعر بأن ثمة حلقة ما ضائعة، وثمة ما هو جوهري وضروري في الحكاية مفقود، لذا عدل عن مشروعه، واستغرقه الأمر سبعة عشر عامًا الى أن عاد الى تشيلي مع عائلته، بعد سقوط نظام بينوشيت عام 1990، وهناك في زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة، بدأ يعثر على إجابات عن تلك الأسئلة التي كانت غائمة في رأسه، واستطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده -في نهاية المطاف- إلى الطريقة التي ستروى بها تلك الحكاية.

 

كانت تشيلي آنذاك تعيش حالة انتقالية؛ اذ على الرغم من سقوط الديكتاتور وانتخاب سلطة وطنية جديدة، إلاّ أن الاجراءات الموقتة أبقت على كثير من رموز النظام السابق في المفاصل المختلفة للدولة، وظل العديد من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقين من دون عقاب؛ الأمر الذي أثار ضغينة بعض الناس، وغيظ بعضهم الآخر، ولا سيما أولئك الذين عانوا من النظام القديم، وكان يسكنهم الخوف من عودة الدكتاتورية، وفي الوقت نفسه، كانت السلطة الجديدة تدرك أن الوضع غير مستقر، ومن شأن أي اجراءات راديكالية أن تفجر حربا أهلية في البلاد؛ لذلك أرادت أن تعالج الأوضاع بشكل تدريجي وببرنامج اصلاحي براغماتي، للانتقال بالبلد نحو الديمقراطية، مع تجنب الاهتزازات العنيفة التي قد تدخل البلاد في حالة من الفوضى وتجدد الإرهاب.

 

في ظل هذا الجدل المحتدم حول الاصلاحات، ومسألة العدالة الانتقالية، ومحاسبة رموز النظام السابق، ومفهوم التسامح، وهل يعني التسامح التنازل عن الحقوق والنسيان، أم يعني تطبيق العدالة، وعن أي عدالة يجري الحديث؟! في ظل هذا الحوار المفتوح وجد دورفمان أجوبة عن الأسئلة التي كانت تشغله، ومنعته من كتابة مشروعه.

 

يقول دورفمان: فيما كنت أرقب بدهشة لجنة التحقيق التي تشكلت، وهي تقوم بإنجاز مهمتها الشاقة والشائكة، بدأت أدرك شيئًا فشيئًا وببطء، أنني أعثر أخيرًا على الاجابة عن السؤال الملتبس للحكاية، ذلك السؤال الذي ظل يدوي في رأسي لسنوات عديدة. كانت الاجابة هي: أن اعتقال المرأة للرجل الغريب في منزلها، وإخضاعه لمحاكمة شخصية، لا يمكن أن تتم في دولة يتربع على السلطة فيها دكتاتور، كما حدث في زمن تلك الحكاية التي قرأتها في تلك الصحيفة، بل في دولة هي في مرحلة انتقال إلى الديمقراطية، حيث جراح الكثير من التشيليين لم تندمل بعد، وحيث كثير من الجناة ما زالوا أحرارًا، يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم، لو تم الكشف عن جرائمهم.

 

قرر دورفمان أن يكتب مسرحية بدلًا من الرواية، يكثّف فيها ذلك الحوار الساخن، والأسئلة الموجعة التي تدور في أذهان التشيليين وكان موضوع “الخوف” -الذي يجب تجاوزه- أحد هواجس دورفمان وكان موضوع “النسيان” هو أيضًا هاجسًا آخر، له وجوهه المتعددة لدى الكاتب؛ إذ كيف يمكن للناس نسيان أوجاعهم وخوفهم والعنف الذي نزل بهم، والتسامح والالتفات الى بناء المستقبل، دون تحقيق العدالة والقصاص ممّن سبب لهم كل تلك الآلام؟!

مثل تلك الأسئلة، كانت تطرحها شخصية الضحية “بأولينا”، لكن الوجه الآخر للموضوع كان يأتي على لسان شخصية المحامي “جيراردو”، زوجها، الذي عُين عضوًا في لجنة التحقيق، فهو وأمثاله كانوا يشعرون أن استعادة الماضي تحطيم لهم، وكانوا يقولون: ثمة مستقبل ينتظرنا، دعونا نبدأ من جديد، ونطوي صفحة الماضي، بيد أن أولئك الذين ذاقوا جور ومرارة الماضي، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين، كيف لهم أن يقبلوا النسيان، وهم يسيرون على رصيف واحد -جنبًا الى جنب- مع جلاديهم القدامى؟!

 

تلك الأسئلة الإشكالية والدرامية بامتياز، هي ما طرحته مسرحية الموت والعذراء، وهي نفسها الأسئلة الإشكالية التي تواجه كل الشعوب التي تريد الخروج من عنق الزجاجة، وترمّم جراحها بعد سقوط الدكتاتورية والعبور الى نظام ديمقراطي، اذ لا يمكن إنزال العقاب بكل مرتكبي الجرائم؛ لأن ذلك سيدخل البلاد في حرب أهلية، وفي الوقت ذاته لا يمكن للضحايا أن تتنازل عن حقوقها، وتتناسى ما حل بها من آلام.

فما هو الحل إذن ؟!

 

الحل بأن يعتذر المجرم –على الأقل- عما ارتكب من جرائم، الأمر الذي قد يقنع الضحية بالتسامح والقبول بفتح صفحة جديدة، دون أن يعني ذلك نسيان الماضي، فالمطلوب وضع أسس جديدة متينة لكيلا يتكرر الماضي بشكل أو بآخر، وإلا سوف تستمر دوامة العنف الى ما لا نهاية.

 

فكم هي راهنة، وملحّة تلك الأسئلة، وكم تحتاج الى التفكّر العميق كي نواجه ما ينتظرنا في قادم الأيام؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق