ما إن أعلن مايكل راتني، المبعوث الأميركي إلى سورية، في رسالته إلى فصائل المعارضة، في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري، عن قرب التوصل إلى اتفاق مع روسيا حول وقف القتال في المناطق السورية المختلفة، ولا سيما في حلب؛ حتى أُعلن عن فشله في اليوم التالي (4 أيلول/ سبتمبر)؛ وهو ما تم التأكيد عليه مجدّدًا في اجتماع القمة بين الرئيسين، أوباما وبوتين، على هامش التئام قمة الدول العشرين في الصين، في 5 أيلول/ سبتمبر.
في الواقع، إن هذين الإعلانين يثيران ملاحظات، أو شبُهات، عديدة؛ إذ إنها المرة الأولى التي يقوم فيها المبعوث الأميركي بإصدار إعلان كهذا، مع كل ما تضمنه من تفاصيل دون التيقّن منه، وكأن الغرض منه مجرد الإعلان؛ هذا أولًا. ثانيًا، واضح من مضمون الرسالة (الإعلان) أن الاتفاق هو بين الطرفين الروسي والأميركي، كأن الطرفين المعنيين (النظام والمعارضة) غير معنيّين سوى بالتبلّغ، وتاليًا بالتنفيذ. ثالثًا، تبدو الرسالة وكأنها بمنزلة رفع عتب، أو بمنزلة محاولة أميركية لتطمين المعارضة، بينما هي توضّح أن لا شيء مضمون، وأن لا ثقة بالموقف الروسي، وأنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا إزاء ذلك. رابعًا، يُستنتج من ذلك أن الإدارة الأميركية تُخلي مسؤوليتها، وتنأى بنفسها عما يجري في سورية، وضمنه ترك روسيا تفعل ما تريده، كأنها معنية بالحفاظ على “الستاتيكو” القائم فحسب، أي لا غالب ولا مغلوب، لا رابح ولا خاسر، بينما هي تصرّ على عدم استخدام أوراق الضغط التي تمتلكها، تاركة الأمر للمتصارعين، الإقليميين والمحليين، ومعهم روسيا، طبعًا في الحدود التي تحدثنا عنها؛ وهذا لا يعني إلا إدامة الصراع، واستمرار عذابات السوريين.
على أي حال، فإن هذا الموقف -بالضبط- هو الذي وسم مواقف إدارة أوباما في تعاملها مع الصراع السوري، بغض النظر عن خطاباتها التي تراوحت بين مطالبة الأسد بالرحيل؛ لأنه غير شرعي، والقبول به في المرحلة الانتقالية، وهذا ليس له علاقة بحرص هذه الإدارة على عدم التورّط في الصراعات العسكرية، أو بتحول اهتماماتها نحو جنوب شرق أسيا، بقدر علاقته برؤيتها لذاتها، ولكيفية إدارتها الصراعات الدولية، وموقع سورية في الاستراتيجية الأميركية.
هكذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: ما مصالح الولايات المتحدة في سورية؟ أو ما مكانة سورية في الاستراتيجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط؟ أو ما الذي يضر الولايات المتحدة من جراء استمرار الصراع السوري؟ ومثلًا، فهل تتضرّر عسكريًا أو أمنيًا؟ هل تتضرّر مصالحها الاقتصادية؟ هل ثمة تداعيات اجتماعية عليها، كما يحصل بالنسبة لأوروبا، من جراء قضية اللاجئين؟ إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة، وبعيدًا عن الرغبات، وبمعزل عن النظرة التي تفترض أن ثمة مبادئ للدول، تفيد بأن سورية ليس لها هذا الوزن الاقتصادي، وأن الصراعات فيها لا تؤثّر على الولايات المتحدة، ولا من أي ناحية، وأن ما يهم الإدارة الأميركية -هنا- هو ضمان أمن إسرائيل وحسب، وهذا قد تحقّق منذ زمن.
على ذلك، ماذا بشأن استمرار الصراع إذن؟ بالنسبة للولايات المتحدة، وعلى ضوء هذه الأوضاع، يبدو أن استمرار الصراع في سورية يؤمّن لها إرهاق واستنزاف أطراف عديدة، وضمنها روسيا وإيران وتركيا والدول العربية، فضلًا عن إضعاف وضعضعة البنى “الدولتية” والمجتمعية في المشرق العربي، وهذا ما يفيد إسرائيل أيضًا، كما أن هذا الوضع يخدم استراتيجيتها بخصوص محاربة الإرهاب، بعد أن باتت سورية (والعراق) بمنزلة الساحة له.
هذا كله يُفسِّر أن الولايات المتحدة تتصرف بوجهين في الأزمة السورية؛ ففي الظاهر تُقدّم نفسها كحكم بين الأطراف المتصارعة، في حين أنها في الباطن، هي أكثر الدول فاعلية في الصراع السوري، حتى وهي تدير ظهرها لهذا الصراع، ولهذه المنطقة، بواقع أنها هي التي تؤثّر في الأطراف المختلفة، سواء المساندة لإنهاء نظام الأسد، أم الأطراف المساندة لبقائه، وبواقع أنها هي التي تسمح، أو لا تسمح، لكل هذه الأطراف بهذا التصرف أو ذاك.
في المقابل، ثمة ما يُرجِّح أن روسيا بحاجة إلى اتفاق؛ لوضع حد للصراع السوري من زاوية مصالحها، بعد أن حققت ما تريده، إذ إنها أضحت أحوج ما تكون إلى سلّم للنزول أو للخروج من ورطتها في سورية، مع مكاسب معينة، أو مع كسب ماء الوجه؛ لأنها هي التي تخسر، وستخسر أكثر من جراء استمرار تدخلها العسكري، من كل النواحي، ولا سيما من الناحية الاقتصادية، ومعلوم أن الدخول الروسي إلى سورية، إلى حد المشاركة عسكريًا، هو بمنزلة ورقة ضغط على الولايات المتحدة؛ للمساومة على قضايا أخرى (أوكرانيا، رفع العقوبات التكنولوجية الأميركية، مناكفة نشر “الناتو” الدرع الصاروخية في الدول المجاورة).
بيد أن مشكلة روسيا، في هذا الوضع، أن الولايات المتحدة تبدو غير آبهة، أو غير مستعجلة؛ لإنهاء الصراع السوري، إذ لا يمسّها شيء منه، كما ذكرنا، ثم أنها تتصرّف وكأن كل الأمور ستؤول إليها في النهاية، مهما كانت نتائج الصراع الدائر، كونها الأقدر على فرض الاستقرار، وعلى استثمار كل ما حصل. وفي الحقيقة، فإن روسيا تدرك كل ذلك، ولا سيما أنها تعرف حدود قدراتها، وتفهم لا مبالاة أميركا، وتنظر -بعين الحذر- إلى سعيها لمزيد من استدراجها وتوريطها واستنزافها في سورية، أو القبول بما تريده.
المعنى من كل ذلك، أن لدى الولايات المتحدة الأميركية مزيدًا من الوقت للانتظار، بينما لا تملك روسيا ذلك، على الرغم من عنادها ومكابرتها في خسائرها؛ لذا فهي تناكف بعضلاتها وطائراتها فحسب، لرفع الثمن، لكن مشكلتها أن الولايات المتحدة لا تريد أن تدفع، أو لا يهمها أن تشتري، وهذا ما يفسر كل ما حصل وما قد يحصل.
في غضون ذلك، لا ننسى تدهور الاقتصاد الروسي، وأن الدخل القومي لروسيا أقل من ألفي بليون دولار، بينما يبلغ في الولايات المتحدة 18 ألف بليون دولار، فضلًا عن الفجوة -لصالحها- في التكنولوجيا والعلوم والإدارة والاقتصاد، علمًا أن إنفاقها على الأمن يبلغ 40 بالمئة من الإنفاق العالمي.
قصارى القول، نعم الولايات المتحدة لا تريد أن تضغط، وهي تمتلك كل القدرات، ومن دون ولا جندي واحد على الأرض، وثمة وسائل كثيرة، من ضمنها -مثلًا- وقف القصف الجوي، والقصف بالصواريخ الفراغية، مثلما فرضت نزع السلاح الكيماوي، وبإمكانها فرض مناطق حظر جوي، أو مناطق آمنة، تدعيمًا لموقف تركيا، ومد “الجيش الحر” بمضادات طائرات، كما بإمكانها تحريك مجلس الأمن والمجتمع الدولي، انسجامًا مع الموقف الأوروبي، أكثر بكثير مما تفعل، كما بإمكانها تعزيز مكانة المعارضة، وتدعيم دورها سياسيًا وعسكريًا.
وطبعًا، لا ننسى -هنا أيضًا- أن هذا قدر سورية، وأن السوريين هم من يدفع الثمن.