كي نُبعد الخلافات عن حلقتنا الصغيرة، المتعددة الانتماءات، دينيًا وفكريًا، قررنا ألا نتكلم -مباشرة- في السياسة، إلا إذا كان الأمر أكبر من أن نتجاهله، كتهجير سكان داريا مثلًا؛ فوجودنا في الغرب، منذ عقود عديدة من الزمن، لم يُغيّر طريقتنا في التفكير، بمعنى: لم يمنحنا القدرة على ممارسة الحوار الديمقراطي والتمتع بفواكهه؛ لذلك، كان الأفضل استبعاد الحديث في السياسة من اجتماع الحلقة، التي تلتئم ثلاث مرات في الأسبوع.
الأسبوع الماضي، قرر الدكتور أبو حسان أن يُحدّثنا عن دودة البلهارسيا، وعلى الرغم من احتجاج بعضهم على هدر وقتنا المخصص للبغضاء في التعرف إلى الديدان، إلا أن الدكتور أصر على القول: ما دمنا غير قادرين على الاتفاق على الحد الأدنى من توصيف ما يحدث في سورية، فالحديث عن “الدودة” التي كانت السبب في موت الفنان الكبير عبد الحليم حافظ، وحرمتنا من أغانيه العاطفية، والممثل المصري أحمد زكي، قد يجعلنا نتفق على أهمية معرفة طرق مكافحة “داء البلهارسيات، أو داء المنشقات”، وهو مرض من أشهر أمراض العالم الثالث، ولا يُعد مُميتًا بحد ذاته، وإنما يؤدي إلى سرعة استهلاك جسد المصاب.
سُمي المرض باسم مكتشفه، الطبيب الألماني تيدور بلهارس (1825-1862)، الذي اكتشف أن كثيرًا من المصريين مصابون بهذا المرض، وأنه يستنزف قواهم منذ أيام الفراعنة، وفي عام 1851، اكتشف دودة من النوع الماص، سُمّيت فيما بعد “بلهارسية”، وقد عثر عليها في الدم والكبد، ويبلغ طولها سنتيمتر واحد.
قد يكون من غير المفيد -هنا- استعراض مراحل المرض وأنواع الديدان وطرق التكاثر، ولكن، لا بد من الإشارة إلى أن العلماء استمروا، بعد تيدور بلهارس، في البحث عن أفضل الطرق لوقاية الإنسان من هذه الدودة، وخاصة طريقة تكاثرها خارج الجسم الإنساني، حيث يتم تكاثرها لا جنسيًا، عبر وسيط، هو القواقع التي توجد بكثرة في مياه الترع، وعلى حوافها، وتتم العدوى بمرض البلهارسيا عند نزول الإنسان إلى مياه الترع والمصارف، ولما كانت حياة مصر الزراعية موجودة حول نهر النيل، وتنتشر بكثرة الترع التي يستخدمها المصريون للغسيل والسباحة والري، فقد اقترح أحد الباحثين، في محاولة للحد من انتشار المرض، نشر مجموعة كبيرة من “المراحيض” بالقرب من الترع؛ كي يتم استخدامها لتصريف فضلات الإنسان التي تحمل الديدان، إضافة إلى تربية البط الذي يقوم بأكل القواقع التي تتكاثر فيها الدودة الأنثى لا جنسيًا.
إلا أن النتيجة لم تكن منسجمة مع حجم الجهد الصحي والنفقات التي صُرفت على بناء “المراحيض”؛ فقد استمر المرض في الانتشار، وفي إحدى جولات التفقد التي قام بها أحد العلماء للترع المصرية، واطلاعه على الصرف الصحي، وخاصة معاينته للمراحيض العمومية، وصل إلى نتيجة مذهلة، وقد أوجزها في خمس كلمات “يجب وضع المرحاض في رأس المصري”، وليس على طرف الترعة.
حدث في حلقة الأصدقاء، بعد هذه النتيجة، ما حدث في الإعلام المصري آنذاك، فقد علت الأصوات، وسمعت الطاولات القريبة والبعيدة صراخنا، كما لو كنا نتناقش في السياسة التي هجرناها، وقال أحدهم رأيًا غريبًا، ما مضمونه: هذه خلاصة رأي لرجل “صليبي” يريد النيل من مصر والعرب والمسلمين، وغرابة الرأي ليس لأن الرجل يعيش منذ عقود بين “الصليبيين”، وإنما لأنه حشر هذا الرأي في غير مكانه وزمانه الصحيحين، على طريقة نقاشاتنا الـ “فيسبوكية” حول الثورة السورية، وأسباب تراجعها وتقدم نظام الأسد.
أضحت، بعد ذلك، المشكلة في توضيح ما قاله العالِم، وأنه لا يقصد شتم المصريين، ولا الإساءة إلى العرب والمسلمين، وإنما القول فحسب: يجب قبل بناء المراحيض، إقناع المصري بفكرة المرحاض، وأهميته وفوائده؛ كي يصبح، لاحقًا، جزءًا من سلوكه اليومي، ويرى فائدته في الحياة العامة.
ما قاله ذلك العالِم عن ضرورة وضع المرحاض في رأس الفلاح المصري، يمكن قوله أيضًا عن السوري الذي يخوض، منذ خمس سنوات، صراع وجود أو لا وجود، مع نظام همجي قل مثيله؛ ومع ذلك، فإنه يُكرر الأخطاء نفسها، في القتال وفي السياسة، في التحالفات وفضّها، في البحث عن مصادر تمويل وفي صرفها، في الدعوة والتحريض على الثورة، وفي تقليد ممارسات النظام القاتل على الرغم من ادعاء ثورته عليه.
لقد كتب السوريون المجلدات، خلال هذه السنوات، عن الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة، ولكن أين هي تلك الشعارات في الحياة اليومية، كيف يمكن صرفها؟ أين هي الأخلاق التي ننادي بها كل دقيقة، أين الأمانة والصدق والتعاضد والمحبة والتضحية من أجل المحتاجين، أين هي الرأفة بالأولاد والنساء.
هل يوجد “صليبيون” هنا، يمنعوننا من ممارسة هذه القناعات؟
أنا أعرف أن الغرب “الصليبي” يبحث عن مصالحه في بلادنا، وفي دعمه لنظام الأسد، ولكن، نحن، ماذا فعلنا ونفعل لمنعه، غير الشتائم والتحريض الطائفي الذي يضرنا!
كتب أحد الـ “فيسبوكيين”، نسيت اسمه للأسف: قرأت هذه الأيام كثيرًا من المراجعات النقدية للسنوات الخمس الماضية، وهذا حسن، ولكن لم أقرأ اعترافًا واحدًا بالخطأ.
هل سبب عدم الاعتراف بالأخطاء، هو الخوف من أن يعرف الناس أن دودة البلهاسيا مقيمة في عقولنا؟
متى ستنتقل الثورة إلى عقولنا؟