مقالات الرأي

من حكايا الثورة السورية

قرأت هذا الأسبوع نتائج استقصاء صحافي ميداني، قام به الصحافي “آفي آشر سكابيرو” (AVI ASHER SCHAPIRO)، ونشره في دورية (The Atlantic) أواخر آب/ أغسطس الفائت، وترجمه مركز حرمون للدراسات المعاصرة (http://harmoon.org/archives/2011).

تتحدث الدراسة عن مجموعة مؤلفة من نحو أربعة وعشرين من الأطباء السوريين الأميركيين، من ذوي تخصصات متعددة، ويعيشون في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة الأميركية، أسسوا فريقًا عبر برنامج الـ “واتس أب”، باسم “غرفة استشارات مضايا الطبية”؛ للمساعدة في علاج الحالات التي يتعرض لها سكان بلدة مضايا السورية، المحاصرة من عناصر حزب الله اللبناني، من مسافة تبعد عن مضايا نحو عشرة آلاف كيلو متر.

نتيجة الحصار والتهجير، لم يبق في عيادة مضايا الصحية سوى شخصين: شاب في الخامسة والعشرين من العمر، كان طالبًا في السنة الأولى بكلية طب الأسنان عندما اندلعت الحرب السورية عام 2011، وطبيب بيطري في أواسط الأربعينيات من عمره، وكان على هذين العاملين الصحيين أن يُعالجا حالات تبدأ من الأمراض الناجمة عن المجاعة وسوء التغذية، ولا تنتهي عند كسور العظام و(الغنغرينا)؛ فقد عزل الحصار القسري المفروض على مضايا لأكثر من سنة، من حزب الله، أربعين ألفًا من مواطنيها عن بقية المناطق السورية، فضلًا عن حرمانها شبه الكامل من أي مساعدات إنسانية؛ ما تسبب في موت عدد كبير من المحاصرين بسبب الجوع، وإصابة أعداد أكبر بأمراض سوء التغذية، كما أن حواجز حزب الله حول البلدة تطلق النار على أي شخص تشتبه بمحاولته دخول مضايا، أو الخروج منها؛ ما يتسبب بجروح خطِرة للذين تُكتب لهم النجاة من الموت.

في شباط/ فبراير 2016، اكتشف طبيب سوري متخصص في أمراض الرئة، وُلد في مضايا، ويعيش بعيدًا عنها بولاية إنديانا الأميركية، أن في إمكانه استخدام شبكة “سيرياتيل”، التي يملكها رامي مخلوف، لتهريب النصائح الطبية عبر الحصار، وكتب طبيب أمراض الرئة -هذا- رسالة استغاثة على صفحته في الـ “فيسبوك”، يطلب فيها من الأطباء الذين يتحدثون العربية، الاشتراك في غرفة محادثة عبر برنامج الـ “واتس أب”؛ لتصبح “غرفةَ مضايا للاستشارات الطبية”، ولم تمض أربع وعشرون ساعة على وضع الرسالة، حتى كان عدد كبير من الأطباء قد انضم إلى الغرفة، لدرجة أن صاحب الرسالة صار يعتذر عن عدم قبول انضمام المزيد من الأطباء.

ما نقله الصحافي الأميركي عن الأطباء السوريين الأميركيين، يبعث على فخر أي سوري بانتمائه إلى سورية، ويؤكد -مرة أخرى- أن الثورة السورية خَلقت حالات من التضامن والتعاطف والتلاحم، العابرة للطوائف والمناطق والأعراق، تُكررُ الردَّ بكل حزم على أولئك الذين يصفون الثورة العظيمة بأنها “حرب أهلية”، أو “صراع طائفي”، أو ما شابه؛ بل يبرهن على أن أولئك الطائفيين المتطرفين الذين تصدروا واجهة الأحداث في سورية، سواء طائفيو النظام وإيران، أم طائفيو داعش وأخواتها، لا يشكلون سوى الزبد الذي سيذهب جفاء بعد أن تستقر الأمور، وتتجه الثورة للوصول إلى أهدافها الحقيقية.

“كان جراح عظام أميركي سوريّ يتسوق مع اثنين من الأطفال الصغار، في “وول مارت” في غراند رابيدز بولاية ميشيغان، عندما سمع رنّة مألوفة، إخطارًا من الـ “واتس أب”، تقول: “أصيب شخص في سن المراهقة بطلقة في ساقه، واخترقت الرصاصة عظم الساق مباشرة، وثقب العظمُ المكسور جلدَه مثل الرمح”، ومع أن اليوم كان يوم عطلة الجراح، إلا أنه استقبل الرسالة كخبير في عمليات جراحة العظام المعقدة، كان ذلك هو مجال تخصصه. يقول الجراح: “كنت سأهمل أي اتصال آخر”، لكنه كان يعلم أنه ليس لطالب طب الأسنان مكان آخر يلجأ إليه، وكان هو جراح العظام الوحيد في فريق “استشارات مضايا الطبية”.

تراقب طبيبةٌ للأمراض الباطنية، تقيم في فرجينيا، صفحةَ الفريق على الـ “واتس أب”، مرات عدة كل يوم “في الرابعة فجرًا، عندما تستيقظ لإرضاع طفلتها المولودة حديثًا، أو في استراحة الغداء في عيادتها، وفي الأسابيع الأخيرة، حاولت مساعدة العاملين في عيادة مضايا؛ لتشخيص حالة امرأة فقدت بصرها فجأة، دون سابق إنذار، وتعاني من الهلوسة، لو أن مريضًا جاء إلى عيادتها بمثل هذه الأعراض لطلبت له الطبيبة على الفور تصويرًا بالرنين المغناطيسي، ولكن بما أنه لا يوجد جهاز لمثل هذا التصوير في مضايا، صارت هي وثلاثة من الأطباء الآخرين يعملون على تشخيص حالة المرأة تجريبيًا، جربوا مختلف الأدوية التي يصدف وجودها في العيادة، وينتظرون معرفة مدى نفعها”.

هذه نماذج من بطولات، نعم بطولات، هؤلاء الأطباء الذين تقطن أجسادُهم في الولايات المتحدة الأميركية، لكن أرواحهم، تُعاني مع ما يُعانيه شعب سورية من وحشية النظام وحلفائه.

وصف طبيب أمراض الرئة تكرار النظر إلى هاتفه باستمرار؛ حتى عندما يقود سيارته وسط الزحام؛ للتأكد من أن الفريق يجيب عن جميع الأسئلة المطروحة، بقوله: “لا أستطيع تركهم، روحي معلقة هناك”. وقال جراح العظام: إنه يتفحص غرفة المحادثة “مرات عدة في اليوم”. أما قبل فريق الـ “واتس أب”، فكان قد تعوّد على إغلاق التلفاز، كلما عرض صورًا من الحرب السورية؛ إذ كان يغمره الشعور بالعجز، يقول الجراح: “كنت أُغلق حتى دماغي، لم أكن أرغب في أن يحدثني الناس عما يجري في سورية”.

صار العاملان الوحيدان في عيادة مضايا يتعلمان الطب بالممارسة، عبر تعليمات غرفة الـ “واتس أب”، لقد أرغم الحصار الوحشي الذي مارسه النظام وحزب الله على مضايا، العاملين في عيادتها على أداء إجراءات طبية أكبر كثيرًا من إمكاناتهم، “تعاملوا مع عدد لا يحصى من ضحايا إطلاق النار، ونفّذوا سبع عمليات بتر للأعضاء، وأكثر من اثنتي عشرة عملية ولادة قيصرية، وشخصوا جميع الأمراض، من التهاب السحايا حتى السرطان”.

“يتذكر طالب طب الأسنان المرة الأولى التي ساعده فيها فريق أطباء الـ “واتس أب” على تشخيص الأمراض؛ ففي اليوم التالي لتقديمه من جانب طبيب أمراض الرئة إلى أعضاء الفريق، جيء إلى العيادة بولد كان جسمه متورمًا ومشوهًا، ساعد أحد أطباء الأطفال في الفريق على تحديد مرض الطفل، كنقص حاد في البروتين، وللتعامل مع الحالة، ساعد أحد أطباء الأطفال في شيكاغو بوضع صيغة، يُستخدم فيها بروتين الخضار، التي يمكن أن يتعود عليها الأطفال، كحمية تعتمد البروتين العالي”.

“ليس هناك حل آخر”، كما يقول فاليري زيبالا، المدير التنفيذي للمعهد السوري، المؤسسة غير الربحية لمراقبة الحصار (مشروع مراقبة المجتمعات المحاصرة في سورية): “لا توجد في مضايا عيادة ثانية؛ لتعيد المرضى إليها، ولا تستطيع إحضار طبيب من المناطق المجاورة، وليس هناك مكان آخر يلجأ إليه المرضى، فإما هذه العيادة أو لا شيء”.

هذه بعضٌ من حكايا السوريين في الثورة السورية، لكن الذي لفت نظري إلى حد الدهشة، أن معظم هؤلاء الأطباء، الذي يؤدون عملًا إنسانيًا بحتًا، طلبوا من الصحافي عدم تحديد هوياتهم، خشية تعريض عائلاتهم في سورية للمخاطرة، إنهم يتابعون قصص أولئك الذين يعشون خارج سورية، ويعاني أقرباؤهم داخلها، لا لشيء، إلا لأن لهم آراء ومواقف ضد استبداد النظام الأسدي ووحشيته.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق