مقالات الرأي

الحروب اللا متناظرة على الأرض السورية

دخلت دول المنطقة والإٌقليم، بعد ثورات “الربيع العربي”، في مرحلة جديدة من حسابات الأمن القومي، فقد اختلّت منظومة الأمن والاستقرار التي كانت سائدة، وباتت دول الإقليم أمام معطيات جديدة، وهو ما جعل من المخاطر والفرص مختلفة كليًا عما كانت عليه، وسيكون على الدول أن تتكيّف مع أشكال جديدة من الصراع، وفي مقدمتها الصراع غير المتناظر الذي راح يفرض نفسه نمطًا جديدًا في حسابات الأمن القومي، بل ويحدُّ كثيرًا من إمكانات السياسة وأدواتها الديبلوماسية.

إن أحد الشروط الأكثر وجوبًا لوجود الحرب اللا متناظرة، يتمثل بتداعي سيطرة الحكومات على سيادتها، وعدم إمكانية أجهزة الدولة العسكرية والأمنية على ضبط الواقع الميداني، ووجود قوى جديدة فاعلة على الساحة عسكريًا، وهو ما بات يتوافر في سورية منذ الربع الأخير من عام 2011، وسيأخذ -منذ ذلك الوقت- خطًا تصاعديًا في خروج مناطق أو مدن كاملة من تحت سيطرة النظام، ومن المعروف أن سقوط معابر حدودية مع العراق، كان مقدمة لما سمي بـ “تحرير الرقة” في أوائل مارس/ آذار 2013.

بالطبع، كانت الدول الإقليمية فاعلة بشدة في تداعي سيادة القوات النظامية على مجمل الجغرافيا، وقد باتت تلك الدول جزءًا من الحدث السوري نفسه، حيث باتت القوى العسكرية المحلية جزءًا من الرأسمال السياسي لدول الإقليم، في لعبة شطرنج إعادة بناء منظومة الأمن والاستقرار التي ستبقى ملامحها غير واضحة المعالم حتى اللحظة الراهنة، وربما ستبقى كذلك إلى أن يأخذ المنحى التصاعدي للحرب اللا متناظرة بالتوقف والتراجع، وهو ما لا تبدو ملامحه موجودة بما يكفي.

الوكلاء السوريون، من كتائب وألوية وتنظيمات عسكرية، مضافًا إليهم ميليشيات خارجية من مثل حزب الله، والميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية، أصبحوا مندوبي الدول الإقليمية في الصراع، وخرج الصراع -بالتالي- من إطاره المحلي الوطني وأهدافه السياسية إلى صراع، تقوده دول الإقليم لحسابات استراتيجية تتخطى في أدواتها ومنظورها الممكنات والضرورات السورية؛ ما فسح في المجال لديمومة الصراع وتحويله.

لقد كانت سورية -قبل عام 2011- نقطة توازن في حسابات الأمن الاستراتيجي بشقيه: العربي والإقليمي، وأظهر استعصاء التحوّل السياسي -من بنية مغلقة استبدادية إلى بنية منفتحة ديمقراطية- صعوبات لا يمكن تجاوزها أمام النظام السوري، وأمام القوى الطامحة للتغيير في الوقت نفسه، فقد فرضت لحظة المواجهة الداخلية أمام قوى الإقليم جملة من المخاطر والفرص، فتغيير النظام السوري يشكل خطرًا على إيران من منظورها لأمنها القومي، ومن شأنه أن يحد من طموحاتها، وأن يخلخل موقفها الاستراتيجي، كذلك الأمر، رأت تركيا ودول الخليج في تغيير النظام السوري فرصة لبناء توازنات جديدة في حسابات الأمن القومي، في الوقت الذي التزمت إسرائيل حالة من الحياد في المراحل الأولى، مفضلة أن يكون امتداد الصراع بحد ذاته هو الفرصة التي تضيف نقاط قوة جديدة إلى تفوقها الأمني والعسكري والسياسي على باقي اللاعبين.

لقد شكلت الحرب اللا متناظرة خيار دول الإقليم في المواجهة بين بعضها بعضًا، فمن جهة ليس ممكنًا، ولا مرغوبًا فيه، من دول الإقليم، أو القوى الدولية، الخوض في حروب تقليدية بين الدول، ومن جهة أخرى، فإن الحروب اللا متناظرة هي حروب أقل تكلفة بكثير من الحروب التقليدية، خصوصًا أن القوى البشرية قوى غير محلية؛ وبالتالي، فإن أعداد القتلى لا تشكل ضغطًا على الأنظمة كما في الحروب التقليدية، كما أن التنصل من المسؤوليات عن عمليات القتل والإبادة أمر سهل، ويتحمل مسؤوليته المقاتلون المحليون، مهما كانت الجهة التي ينتمون إليها (حكومة أم معارضة).

ويشكل المال والسلاح والعقيدة والروابط التاريخية عناصر الولاء في الحروب اللا متناظرة، وسنرى أن تحولات الصراع السوري قد مضت عبر هذه العناصر بالذات، حيث برز التمذهب والعلاقات العشائرية والروابط الإثنية جزءًا من حالة الصراع، وقد استثمرت دول الإقليم في تنمية تلك الهويات الفرعية، وأعلت من شأنها، لتكون عصبًا قويًا في حالة الصراع المفتوح، وبحيث لا يمكن الارتداد عنها ممكنًا، وهو ما يسهّل عملية استثمارها -لاحقًا- في أية عملية لرسم الخرائط.

وعبر السنوات الماضية، أدركت دول الإقليم ونظمها السياسية، أن مسار المواجهة في ظل غياب قوة دولية فاعلة وذات إرادة مثل الولايات المتحدة الأميركية، يعني أن التكيف مع الصراع هو الخيار الأفضل لها، كما أن اختيار شكل التكيّف يوفر كثيرًا من الخسائر المباشرة لجميع الأطراف، وهكذا بقي الاستثمار في الوكلاء السوريين، ومن يواليهم من قوى عسكرية غير نظامية (ميليشيات ومرتزقة)، هو السيناريو المفضل في إدارة الصراع، ريثما تنضج شروط موضوعية في الميدان، أو شروط دولية، تسهم في فرض منظومة أمن واستقرار جديدة.

لكن يظل السؤال الأهم: ما مقدرة الأطراف الإقليمية على الاستمرار في الحرب اللا متناظرة في سورية، من دون توقع حدوث مفاجآت من شأنها أن تغيّر الحسابات؟

لقد غيّر الانقلاب الفاشل في تركيا حسابات اللاعب التركي، وهو مثال -فحسب- على عنصر المفاجأة الذي يمكن أن يدفع أطرافًا أخرى إلى تغيير حساباتها، خصوصًا إذا ما حدثت مفاجآت في داخل تلك الدول، أو رأى أحد اللاعبين الإقليميين أن من مصلحته نقل الأزمة إلى جغرافية الطرف الآخر.

وفي كل الأحوال، إن من يدفع ثمن الحرب اللا متناظرة اليوم هم السوريون، ويناط بهم وحدهم -بالدرجة الأولى- إعادة طرح سؤال الحلول الوطنية، وتقليص مساحة هذه الحرب، وإعادة تثقيل دور الفعل السياسي على العسكري، والعمل على إنضاج مسارات وطنية أقل ارتباطًا بالخارج، على الرغم من معرفتنا الأكيدة بصعوبات مخرج -كهذا- في الوقت الراهن.

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تنبيه: browse around here
إغلاق