يعلّمنا درس التاريخ حول الدولة مفهومًا وواقعًا، تنظيرًا وتفكيرًا، قولًا وممارسة، أن ثمة التباس حدث في مستوى المفهوم بين السلطة والدولة، ففي التداول الاصطلاحي للغة تشكل الصورة الصوتية( دولة) تصورًا ذهنيًا وعقليًا لفعل الانتقال من حال إلى حال عند ابن منظور، أو انقلاب الزمان والدهر من حال إلى حال آخر عند الفيروز آبادي، فيما يلاحظ في السياق القرآني أن السلطة هي المدلول اللغوي لدال الدولة ومحمولها المفهومي في آن، وإلى ذلك، فالدولة تعني السلطة التي تجيء وتذهب، تقوى وتضعف، لا تثبت أبد الدهر، ولا تستقر على حال، فيما لا يحيد ابن خلدون الذي يُعدّ من أهم مفكري نظرية القوة والغلبة، عن هذا المعنى، حيث الدولة تنتجها القوة والغلبة وتقرّها العصبية، وإلى هذا، فالدولة وفقًا للمفهوم الخلدوني هي ابنة الحرب.
لفترة وجيزة في تاريخنا السياسي، طابقت دولة النبوة، ومن بعدها دولة الراشدين، بين العدل والحكم، بين الدولة ومقاصد الشريعة (العدل أساس الملك)، ثم استحالت الدولة -بعد ذلك- إلى دولة السلالة ابتداء من معاوية.
دولة النبوة وخلفائها اندرجت في تاريخنا السياسي، بوصفها لحظة تأسيس، تسنمت ذروة المشروعية العليا، وبعد ذلك، صارت جوهرًا سياسيًّا معلقًا في سماء الفضيلة، مفارق يشق الوجدان العربي السياسي، بين واقع دولة الملك والغلبة، والحنين لمفارق ينتظر أن يعود بمعجزة إلهية، تجوهرت الدولة في “اليوتوبيا” خارج الواقع الذي كشف عنها، بوصفها علاقات قوة وغلبة في الوجدان السياسي الذي أخذ ينشد العدل والحرية خارج هذا الفضاء.
التاريخ السياسي في التجربة العربية تجلى -على صعيد الدولة- بالإبقاء على التخارج المقيم بين الدولة والقيمة، بين التاريخ والحرية، بين قانون الجماعة ووجدان الفرد، كما يعتقد عبد الله العروي.
الدولة السلطانية هي ثمرة التاريخ السياسي الذي بقيت علامته الفارقة، مع انشقاق -في مستوى الفكر والوجدان- بين دولة الواقع السلطانية، ودولة الأنموذج (المثال) دولة الخلافة المجسدة لمقاصد الوحي (الشريعة)، وبقيت النخبة، كما السواد الأعظم، مسكونة بـ “نوستالجيا” دولة الخلافة، ولم يتغير الحال في دولة ما بعد الاستقلال، التي لم تختلف في سماتها الاستبدادية والطغيانية، بوصفها دولة قهر وسطو واستغلال (لعل الدولة السلالية الأسدية، بما هي دولة تسلط وطغيان وقمع رهيب تمثل أنموذجًا فائقًا في هذا السياق)، لم تختلف عن الدولة السلطانية التي أمنت انسحاب الوجدان الفردي خارج فضائها، إلى صبوة عاطفية نحو العشيرة والأمة والمذهب والطائفة…، بقي الوجدان الفردي والجمعي معلقًا بما هو أعلى، يشدّه حنين نحو المفارق (الدولة الطوبى)؛ حتى يعود من غيبته الكبرى، وبقيت التجربة فضاء مخاتلًا لتساكن الريبة واليقين، الخوف والبغضاء، الخنوع والأمل، وتركزت الحرية في عوالم ما قبل الدولة، في “اليوتوبيا”، وتعمق -بفعل ذلك- النفور بين السياسة والإنتاج، الحاكم والمحكوم.
قد لا تكون الدولة هي منتهى التاريخ السياسي للبشر، وقد لا تكون الشاطئ بعد إبحار طويل على هذا الصعيد، كما وأنها -وفق جميع الصيغ والنعوت- لم تستطع أن تكون فضاء أسمى للعدل والمساواة والحق، وفي غمارها يمكن الحديث عن كثير من الانكسارات والإخفاقات والتراجعات، لكن من المؤكد أنها أنبل المنجز الحداثي في السياق السياسي. حين نتحدث عن الدولة؛ فهذا يعني أننا أمام تموضع للإنسان، وفق ماركس، وأمام تعيّن للروح والعقل والأخلاق، بحسب هيغل، بل هي التعيّن الأرقى.
في السياق الكارثي الذي نحن فيه، لا يمكن أن يكون لنا من أفق سوى الدولة، الدولة الحديثة، دولة المواطنة، دولة الحق والقانون، دولة محورها الإنسان على اختلاف ألوانه العرقية والدينية والمذهبية والطائفية والطبقية، ولوقف هذه الكارثة، علينا التمعن -مليًا- في غيابها وغيبوبتها وتاريخها الذي يبدو متمسكًا بمكره؛ إذ يعيدنا -دومًا- إلى مربعه الأول المنطقي.
في سياق واقع المظلوميات، وتمسكها بسردياتها الكبرى، تغدو الدولة -بالمعنى المذكور آنفًا- ضرورة منطقية، واقعية وتاريخية، تنحل فيها عقدة المظلوميات، وتجبر في فضائها كسور الهويات، فردية كانت أم جماعية.
في السياق السوري للكارثة العربية، تفصح الثورة عن فضيحة دولة الغلبة والقهر، الثورة فضيحة السلطة الطاغية والمتسلطة، فضيحة الظلم والاستبداد والرؤية الأنوية المظلمة للسياسة.
فضيحة الدولة- ضد الإنسان تشرح -تمامًا- معضلة غياب الدولة، فالغياب يشرح الحضور، لولا غياب الدولة، لما كان حضور الثورة، حين تحول السلطة الإصلاح إلى مأزق تاريخي؛ فهي تنتج الثورة في وعي الجمع وتراكمها، ثم تعود الثورة؛ لتنحكم ببؤرة الأفق السياسي الذي هو لا شيء سوى الدولة، الآن.
ليست الثورة سوى دولة تتأمل في ذاتها، لتتخارج روح الشعب، وتتعين، وتصير موضوعية، في لحظتها الأولى هي كيمياء العويل، تنعكس عنها أوجه المعاناة الخبيئة والموّارة والمتصادية في النفس الجماعية، هي روح الجمع المقيدة إلى صنم السلطة الأحادية، وقد تاقت إلى الهمس الشفيف للحرية السجينة في سجن الملك الذي لازال يعتقد أنه ظل الله على الأرض.
لحظة انطواء خبيء للجمع (الشعب) في اعتلاء المسرح، وكسر الإيهام والخديعة، وتضمينه صيغة الجمع، وتحطيم صنم السلطة، وذروه في فضاء الشعب؛ ليعاد إنتاجها عبر قنوات المشروعية، وبكلمة إعادة المسرح إلى الشعب.
الثورة لحظة النفي، لحظة السلب، لحظة الهدم، هدم صنمية السلطة وأبنية التهميش؛ لأنها لحظة تشوّف لإعادة العدالة إلى نصابها، وتغيير موازيين القوة والسلطة والثروة في بنيان اجتماعي متداعٍ، نحت به السلطة منحى الهرمية، في الأعلى ثمة ذروة مالكة قاهرة طغيانية، وفي القاع قاعدة عريضة للحرمان والتهميش والعوز على كل الصعد.
الدولة هي اللحظة التالية للثورة (أفقها)، سلب السلب، نفي الثورة في الدولة، وخروج ما هو في ذاته إلى ما هو من أجل ذاته، الخروج إلى التعيّن (الموضوعية)، موضوعية الحرية وموضوعية العقل والأخلاق؛ ذلكم هو مدلول الانتقال من هامش السلطة إلى متن الدولة الرحيب.
ينبغي لأطاريحنا السياسية أن تنطوي على أنثروبولوجيا سياسية، تنظر في استعدادات البشر وميولهم وطبائعهم وانفعالاتهم، وبهذا المعنى يجب على السياسة أن تكون أدعى إلى التقاط المشترك والبيني؛ لتدبير الحياة العامة، مع حضور بعد أخلاقي مفترض في كل ممارسة سياسية تحمل هذا المعنى.
من المفترض أن الدولة، بما هي مستوى أعلى في الوجود النوعي للمجتمع، قائم على تكثيف المشترك والعمومي في القانون، من المفترض أنها تعبير روحي، بقدر ما هو سياسي للجسم الاجتماعي؛ وإلى ذلك، فالدولة لطيف هذا الجسم الذي ينشد وجودًا نوعيًا فيها، بقدر ما هذا الجسم كثيف الدولة؛ لأنه حاملها الموضوعي الذي تتقيد به، بقدر ما تنفصل عنه.
لا بد لنا -للخروج من النفق الطويل- من الذهاب إلى الدولة المحددة، وفقًا لمعايير المنجز الحداثي؛ لنتحرر من حال الطبيعة التي نحن عليها، حال الحرب، لتخرج الروح الفردانية المدمّرة، وتصير له (إنية سياسية)، تدخله بابًا مفهوميًا وواقعيًا للمواطنة، وتربي ما فيه من موار الطبيعة على نحو مدني من الغيرية، فلا وجود لي بلا هذا الغير، وبقتله أُسس لقتلي.
هل سنفهم -الآن- أن الدولة هي أفقنا، ولا شيء آخر، إذا شئنا أن نطرد الحرب خارج البلاد، هل سنفهم أن لا سبيل إلى الحرية سوى بناء الدولة التي كانت الوثبة الأولى للثورة، وثبة الحب، حب الحرية، وحب الوطن، وحب الحق والخير والجمال.