بعيد وصول وفد اتحاد الكتاب السوريين -برئاسة محمود جمعة- إلى أبو ظبي، للمشاركة في اجتماعات المكتب الدائم للاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب في العام 2015، والذي تمت دعوتي إليه -كصحافي- من جريدة الخليج التي كنت أعمل فيها محررًا في القسم الثقافي، لفت انتباهي الكاتب السوري، إسلام أبو شكير، إلى قيام أحد أعضاء الوفد بتوزيع بيان على الكتاب والإعلاميين، ورد فيه أنه لا يوجد كاتب معتقل في سورية بسبب آرائه.
ومنذ أن علمت، وخلافًا لما هو متوقع، بأن وفد النظام –أيضًا- سيحضر الاجتماع في اليوم الثاني والأخير، تجنّبت -تلقائيًا- الالتقاء مع هذا الوفد، على الرغم من أنني ما إن كنت ألتقي أحد مواطني بلدي خارج حدوده، إلا وأحتفي به، كإحساس داخلي، عميق وصادق، مع من نعيش معهم في فضاء واحد أثير لدي.
غير إن هذا الإحساس بات يتضاءل تجاه هؤلاء الذين راحوا يدافعون عن القاتل السوري، مدينين الضحية، إلا أن ارتفاع صوت أبوشكير -وهو يرد على أحدهم بانفعال- استجرني للاقتراب منهما؛ لأتابع فحوى الحوار بينهما، ورحت أردف إجابات صديقي الكاتب، بأسماء بعض من تم قتلهم من الكتاب على أيدي النظام، إلى جانب من تم اعتقالهم، بينما الكاتب المذكور غارق في ديماغوجيته، وهو يقول: هاتوا اسم كاتب معتقل لم يرفع السلاح في وجه شعبه، وهو الآن معتقل، حتى نعمل -كاتحاد كتاب- على إطلاق سراحه فور وصولنا إلى دمشق. فقلت له: أجل، سأورد لك بعض الأسماء، لأؤكد لك حقيقة ما تعرفه أنك غير جاد في ما تقول؛ لأنني واثق من أن اتحادكم أصغر من أن يقوم بإنهاء أسر بعوضة لدى أجهزة أمن النظام.
ثم رحت أذكر له موقفًا جرى بيني ود. جمعة، عندما تم نقلي الوظيفي، خارج مدينتي، ولم يواسني، بل راح يعاضد موقف أجهزة أمن النظام؛ وقلت له: حتى لو أن الثورة السورية لم تنطلق، فإنني ماكنت لأصافح مثل هذا المثقف الهش، الدخيل على المهمة النقابية التي كلف بها. حقيقة، إن مؤسسة اتحاد الكتاب السوريين، وعلى الرغم من أنها ضمت مئات الكتاب، بينهم من هم مبدعون حقيقيون، ومعنيون بأهلهم، ومنهم من لهم مواقفهم الضمنية من النظام الذي يتدخل حتى في انتخاباته، من خلال الاجتماع الذي كان يعقده عضو القيادة القطرية مع المجلس، لاختيار رئيس الاتحاد، ومكتبه التنفيذي. وذلك من خلال توجيه النظام الكتاب البعثيين للتصويت لصالح أسماء محددة، وإن كان يتم اختراقها -أحيانًا- ببعض الأسماء غير المرغوبة التي كانت تهمش، ولا تولى الاهتمام. وهو ما كان يحدث -عادة- في فروع الاتحادات في المحافظات؛ إذ كان يُهمّش غير المرغوب بهم، وتشكيل إداراته من الكتاب البعثيين، أو المرضي عنهم، في أقل تقدير.
لقد نخر الفساد مؤسسة اتحاد الكتاب السوريين، وتشكلت هوة ما بين الأعضاء والإدارات المتحكمة، وصارت مكاتب بعضهم -ضمن مقرِّ الاتحاد في قلب العاصمة- موبوءة، على أكثر من صعيد، من خلال استخدامها، خارج مهمات خدمة الأعضاء؛ إذ لا أتذكر أن الاتحاد استطاع رفع الحيف عن كاتب مظلوم، في مهمة تتعلق برأيه، وظل الكتاب ضيوفًا دائمين، على امتداد عمر نظام الأسدين: الأب والابن، بل ظل الكاتب يُلاحق، من الأجهزة الأمنية، أو يُستدعى، ويُهدد، أو يُمنع من السفر، من دون أن يتدخل؛ لتأدية المهمة النقابية المطلوبة منه، بل العكس، فإن بعض المتنفذين في فروع الاتحاد في المحافظات، غدوا جزءًا من المنظومة الأمنية ضد زملائهم، والكتاب من خارج الاتحاد، يؤدون أدوارهم، وشاةً ومخبرين وكتبة تقارير، ولقد عانيت -على الصعيد الشخصي- طويلًا، على أيدي بعضهم، في حوادث يعرفها من كانوا يعيشون في محيطنا الثقافي والاجتماعي. وبعيدًا، عن تدخل أجهزة الأمن في التحكم حتى بشؤون عضوية الأعضاء، ومنع قبول بعضهم، وإن على نحو غير مباشر، عن طريق ممثليه، ضمن الاتحاد -وكنت أحد من عانوا ذلك- كما كان يتم في أثناء التقدم على عمل وظيفي، فإن هذه المؤسسة كانت تسعى لنيل رضا النظام، وعدم الخروج عن سياساته، بل إن صحافة الاتحاد لم تكن من بين أجنداتها ممارسة النقد، والخروج عما هو مرسوم لها، ولا يمكن الخروج عليه؛ من هنا، فإن دورياته: الأسبوع الأدبي، الموقف الأدبي، طالما عانت من الركود، والتكرار، وعدم تقديم ما لا يتوافق مع الخطط والخطوط العريضة الناظمة؛ وهكذا الأمر بالنسبة لإصدارات الكتاب كذلك، والتي كانت تتعرض للرقابة الأمنية أكثر من الرقابة الفنية، وهو ما أدى إلى إصدار كثير من الكتب المتهافتة التي كانت تتكدس في مستودعاتها، ولا تلقى الرواج والإقبال عليها.
ومن أكبر الأمثلة على ذلك، أن هذه المؤسسة كانت تطبع ألف نسخة عن الكتاب الواحد، ولا تستطيع بيعها، ولو بعد عشر سنوات، في بلد عدد سكانه ثلاثة وعشرون مليون نسمة!
كان من أسوأ ما في هذه المؤسسة نشر مؤلفات أعضاء مكتبها التنفيذي، وإهمال إبداعات السواد الأعظم من الأعضاء، وغير الأعضاء، وهو ما يتم خلال منابر النشر التابعة للاتحاد؛ حيث تبدو وكأنها خاصة بهيئات تحريرها، ومن حولهم من البطانات!
لقد أسس اتحاد الكتاب لثقافة الخوف والممالقة، إضافة إلى الزيف والتزوير والتبعية…إلخ. وهو ما أنشأ حالتين، ضمن هذا الاتحاد: أولاها كتّاب البطانة، الانتهازيين، الذين لا هم لهم إلا منافعهم التي يضعونها في موقع الأولوية؛ مقابل الكتاب الذين كانوا يرفضون التمجيد باسم القائد وفكر البعث وسياسات النظام، وهم من كانوا ممنوعين -لفترات طويلة- من إقامة الأمسيات الشعرية في المدن، وأولها مدينتي التي أقطن فيها، لاسيما بُعيد “انتفاضة 12 آذار2004”.
رصد انتهاكات مؤسسة اتحاد الكتاب العرب- وهي كثيرة جدًا- إلا أن أخطرها هو لعب دور المؤسسة الرديفة لسياسات النظام، التي تحولت إلى كتيبة للدفاع عن النظام القاتل! وهو ما لا ينطبق -بكل تأكيد- على عموم أعضاء المؤسسة الذين تعاملوا معها، بوصفها نقابة تؤدي الخدمات النقابية التي لابد منها، وهو أمر طبيعي. لكن “هؤلاء” لطالما شكلوا قلقًا للنظام، وأدواته، ضمن هذه المؤسسة.!
وإذا كان كل ما سبق، في حدود المدرك، فإن المرحلة الأكثر خطورة في تاريخها، والذي دعاها إلى السقوط والانهيار، هو سكوتها عن أداء دورها في ما يجري في سورية، من إبادة ودمار: نصف مليون قتيل، مليون مصاب بعاهات دائمة، عشرة ملايين مهجّر، وباتت صورة السوري تدعو إلى الإمعان في الشفقة والبؤس، بل إن “جواز سفر” السوري بات تهمة في المطارات والمعابر الحدودية، وحتى في بلدان اللجوء.
إزاء كل هذا؛ فإن مئات الكتاب الذين لايزالون ضمن هذه المؤسسة، لم يتنطعوا لإبداء موقف، ولو الخجول، من كل ما يجري في بلدهم، وبحق أهلهم، وذويهم، ومواطنيهم؛ ولا سيّما أن ذلك من صميم دور الكتاب. كان من الضروري الانحياز إلى الضحية في مواجهة المجرم، والخطوة الأولى تتجسد في القطيعة مع هذا الاتحاد، والانضمام إلى “رابطة الكتاب السوريين” التي كانت أحد العناوين العفوية لكتّاب الثورة، على الرغم من تباين وجهات نظرهم، في قضايا جوهرية.
لقد كشفت مجريات الثورة، أنه تم الانزلاق بها إلى مهاوي الحرب المفتوحة، بسبب سياسة النظام في الحفاظ على كرسيه وامتيازاته، بدلًا من الحرص على سورية والسوريين، وأن هناك مثقفين متواطئين، لا يهمهم الموقف المبدئي، الإنساني، المهني، حتى ولو كان الأمر متعلقًا، ليس برفيق درب وكلمة، بل بأحد أفراد بلدهم أو أسرتهم. إنه ارتكاس وارتكان، وحالة انفصام عن الواقع والأخلاق والقيم الثقافية؛ ومن دون أن يخرج ممثلي هذا الرهط عن المسارات المرسومة لهم، يصبح كل منهم شريكًا للقاتل، في المجزرة المفتوحة.