مقالات الرأي

خطر الخطاب الشعبي الثوري وكارثيته

على الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على ثورة السوري، وما رافقها من تعقيدات وحروب ودمار ونزوح وهجرات، حطمت حياته، ونالت من عائلته ورزقه وأحلامه وشعوره بالجدوى من الحياة، إلا أننا نجده ما يزال في حديثه عن ثورته وتطوراتها، يستخدم خطابًا غارقًا في المثاليات والأخلاقيات والعدميات والشكوى والبكائيات، خطابًا خشبيًا متعاليًا، لا يساعده على فهم مجريات الثورة وصعوباتها، ولا يُمكِّنه من التكيف مع المفاجئات التي اعترضت ثورته، وتكاد أن تهشمها.

نتوقف عند هذا الخطاب الشعبي، لما يُشكّله من خطر على الثورة، من حيث هي فعل مترامي الأطراف، ومتشعب النتائج، ومسيرة تاريخية متقلبة، قد تمتد لعقود من الزمن، وتجاهل للسياسة من حيث هي تفكير في الممكنات، وتَدَبُر للحياة وفق معطياتها، وتغييب للعقلانية من حيث هي قاعدة للفهم والفعل والحياة بمجملها، بل إن نُنَبِهه إلى ما هو خطِر ومحزن في خطاب كهذا، عندما يضرب عرض الحائط بكرامة الإنسان السوري نفسه، مكيلًا له ما لذَّ وطاب من التهم، بغية تقديم نقاش يحاول تحليل هذا الخطاب وفهمه، وإخراجه من سلبيته وعدميته.

إن أي متابع لحديث السوريين عن ثورتهم، ونقاشاتهم عن الأزمات التي تمر بها تلك الثورة ومستجداتها، سرعان ما يلاحظ تطاير كلمات من قبيل: “خونة”، “مرتزقة”، “تجار”، “باعونا”، “كذابون”، “ما ظل حدا تثق بيه”، “كلهم لصوص”، “وين الإنسانية؟”، “ما حدا عنده شرف”، “العالم كله متآمر علينا”… إلخ. ويقول أحد الناشطين المتابعين للوضع بدقة: “كذابون ومتآمرون، ماذا يمكننا أن نفعل لهم، نحن أيضًا نكذب على أنفسنا، ونتآمر على أوطاننا”، ويقول آخر: “أصلًا الغرب وضع بان كي مون أمينًا عامًا للأمم المتحدة، كي يُدير عملية عالمية لإجهاض الثورة السورية فحسب”، ويتحدث أحد الشيوخ أنه “كلما زادت آلام السوريين، كلما اقترب النصر، فلا تجزعوا”؛ حتى أن هناك كاتبًا معروفًا، كتب مقالًا بعنوان: “هناك اتفاق أممي على إبادة الشعب السوري”.

وعلى العموم، يمكن تحديد السمات العامة لخطاب كهذا من حيث أنه:

خطاب عدمي: يُخوّن كل الأطراف والأشخاص والأحزاب والدول، المعارضة والنظام، الإسلاميين والعلمانيين، معارضة الداخل ومعارضة الخارج، أميركا وروسيا، الغرب والدول الإسلامية، الخليج وإيران، الجيش الحر وجيش النظام، حزب الله وتنظيم الدولة… فالكل متآمر، والكل يُتاجر بنا، والكل يريد أن يدمرنا؛ حتى اللاجئين والأطباء والأمهات والآباء الذين تركوا بيوتهم، تحت أي وضع كان، باعوا أوطانهم وأعراضهم، والشكل العام لهذا الخطاب أشبه بـ “المتاهة الأخلاقية”، التي تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ.

خطاب تراجيدي/ كوميدي: يُحوّل أي نقاش، أو محاولة للفهم إلى نوع من السخرية والتهكّم والتوجّع والنواح والتظّلم والتحّسر؛ لتختلط المشاعر بالوقائع، والأحداث بالنيات، والسياسة بالمزاج. بحيث تتحول الحوارات إلى مجرد نوع من التنفيس عن حالة التوتر التي يعيشها السوريون في كل مكان هذه الأيام.

خطاب “مُتحكمن”: ونقصد بذلك أنه خطاب ينطلق من التسليم بفهمه ومعرفته وإدراكه لكل شيء، بشكل مسبق ومطلق، وهو خطاب (يعتقد واهمًا) أنه يعي كل المخططات والنيات، ويعرف بالأحداث قبل وقوعها، ويستطيع رسم صورة متكاملة ونهائية، لكل المستجدات التي ستحدث في المستقبل، كما أنه يمتلك تفسيرات لكل شاردة وواردة.

وعلى هذا النحو، يمكن استشفاف خطر هذا الخطاب على الثورة ومجرياتها، فهو في النهاية، خطاب مُحبِط ومُحبَط، على الرغم من قدرته على التنفيس عن التوترات، مثلما أنه خطاب مرتبك ومتعال، مفتقد للقدرة على الفهم والإدراك. أما مصدر الخطورة في عدميته، فتكمن في أنه يساوي بين كل الخيارات وينتهي إلى لا جدواها، فسلمية الثورة خيار انتحاري لا جدوى منه، أما خيار التسليح فهو الخيار الذي دمر الثورة، والبقاء في مناطق (داعش) جحيم، والخروج من تلك المناطق خيانة، والنزوح إلى مناطق النظام عمالة، أما النزوح إلى مناطق المعارضة، فهو بهدف الشحاذة والتلطّي لمساعدات الإغاثة.

وعلى العموم، يمكن تحديد ثلاثة أسباب وراء انتشار هذا الخطاب:

الأول – الحرمان من السياسة كمجال للتفكير: فقد دأبت “المنظومة المعرفية” للنظام الأسدي، ولمدة تجاوزت الأربعة عقود، على تغييب السياسة عن المجال العام، وذلك من خلال ربط السياسة بفكرتين جوهريتين؛ الأولى تقول إن السياسة كلها كذب وخداع ورياء ولا جدوى منها، والثانية تقول إن السياسة لا يأتي منها سوى المشكلات ووجع الرأس وخراب البيوت، ولذلك عاش السوري خلال فترة حكم النظام الأسدي، ليس جاهلًا في السياسة بشكل إجباري وحسب، ولكنه أيضًا يحمل مفهومًا سلبيًا عن السياسة، يحتقرها لأنه محروم منها، ويخاف منها؛ لأنها يمكن أن تخرب بيته، ويبدو أن هذا المفهوم السلبي بقي يرافقه حتى بعد إشعاله لثورته، فهو على الرغم من حمله السلاح وتهجيره القسري ونزوحه المتكرر، بقي يكره السياسة، بل ويحقد عليها، ولا يريد أن يخضع لها.

الثاني – غياب التربية العقلية: وهذا السبب يتعلق ببنية المجتمع التقليدية، على الرغم من أن النظام الأسدي، عزز ذلك الغياب واستثمره أقصى استثمار، فالعقل والفهم والتفكير والفلسفة والتحليل، مفاهيم تحمل قدرًا كبيرًا من السلبية في ذهن الناس العاديين، وهذه السلبية ناتجة عن تأثير الفقه الإسلامي منذ أيام الدويلات العربية الإسلامية، والفترة العثمانية أولًا، وكون المعرفة عن طريق العقل تحتاج لجهد وتجربة واستدلال ثانيًا، بخلاف (الردح) والتهكم والشكوى التي لا تحتاج لأي جهد تحليلي.

الثالث – شعور السوري اليوم بالضعف: وبأن الثورة –التي أنهكته- يمكن أن تُهزم وتذهب أدراج الرياح. وعلى العموم، فإن الفئات التي تشعر بالضعف (مثلًا: الصغار، النساء، المهمشين، الفقراء..)، غالبًا ما تميل إلى ثقافة الشكوى والمظلومية والطهارة الأخلاقية الخادعة، وهذا يعني أن استمرار الخطاب الشعبي الشاكي والباكي، سينتهي بالناس إلى اليأس والقنوط واجتراح الحلول الوهمية والغيبية، والتي تجعل صاحب هذا الخطاب “منفصلًا عن الواقع” انفصالًا لا يقل عن انفصال النظام الأسدي، وهو الوصف الذي تردد على لسان الصحافيين الغربيين لبشار الأسد بعد عدد من المقابلات التي أجروها معه.

هذه الطريقة في التفكير منتشرة ليس في أوساط معينة، بل هي على قدر واسع من الانتشار، لدرجة أن بعض المثقفين أخذ يسير في ركبها، استرضاءً للفئات الشعبية، وجريًا وراء الشهرة، ولا سيما المثقفين التقليديين ذوي التوجهات الأيديولوجية المبالغ فيها. وقاربنا هذه الطريقة في التعامل مع الوضع العام لنُبيّن مدى خطورتها، ونتائجها السلبية، دون أن يشعر أصحابها بذلك، ودون أي شعور بالمسؤولية تجاه عقولهم وتفكيرهم وأخلاقهم، وقبل هذا وذاك تجاه ثورتهم وما تمر به من تعقيدات.

إن تحميل الآخرين مسؤولية تعثّر الثورة، ليس سوى هروب جماعي من المسؤولية تجاه الثورة، وهو هروب مريح نفسيًا، ويبرئ الذات أخلاقيًا من الأوضاع التي آلت إليها، وعلى ذلك، فإن الموقف الشاكي – الباكي على الثورة، هو موقف جبان، ويعبر عن تردٍ أخلاقي. وإذا كانت الثورة فعلًا سياسيًا، فإن الأهم من ذلك أنها ثورة في العقل وطرق التفكير وفهم الأحداث، بهدف إعادة تكوين الأخلاق من جديد، لكنس كل ما علِق في وجدان السوريين وضمائرهم من مفاسد النظام الأسدي، التي لا تُحصى، وهذا يعني أن السوري، مدعو للبرهنة، على أنه يواكب الثورة أخلاقيًا وعقليًا، والسياسة تأتي فيما بعد.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق