لطالما فكرتُ بحنكة مُجرّب، في الوصول إلى خط الملك المعادي؛ بهذا أتخلص من كينونتي البيدقيّة التي تُشعرني بالنقص والدونية، وأتحول بكل ثقة إلى وزير طويل القامة، أبيض الجسد، مفتول الساعدين، وكانت القناعة التي يتحلى بها رفاقي السبعة، تثير في نفسي الاشمئزاز والرغبة في السخرية، من طيبتهم القاتلة التي تؤدي بهم دائمًا -في معمعة القتال- إلى التهلكة، إثر تقديمهم من السلطات العليا كأضحيات، من أجل إحراز تقدم ملموس في ساحة المعركة، من شأنه أن يقلق خطوط العدو، بالقدر نفسه الذي يعزز مواقع قوات الحرس الخاصة بالملك، الذي يوكل مهمات حراسته خفيةً إلى ثنائي الحصان والرخ اليمينيين، اللذين يتخذان -بعد التبييت- مواقع خطيرة، فيها من الدهاء والحكمة ما فيها من القوة والسيطرة.
هذا بالنسبة للخط اليميني الأقرب إلى موقع الملك. أما الخط اليساري لساحة المعركة، فكان المسؤولون عنه هم الفيل المغفل والرخ الأرعن والحصان المتطرف؛ أول من يباشر الهجوم وأول من يخرج من رقعة المعركة مقتولًا؛ أو يتراجع إلى الخطوط الخلفية وقد أثخنته جراحٌ خطرة.
أتذكر ذات مرة، حادثة علمتني كثيرًا، وجعلت أُفقي أكثر اتساعًا، وورطتني بأسئلة غامضة، مبهمة، أقلقت وجودي، ودفعتني إلى التأمل طويلًا في معنى الحياة على وجه هذه الرقعة! ولا أنكر أن تلك الحادثة، كانت شارة البداية التي حفزتني، وأضاءت لي أفق مشروعي الذي أعمل عليه الآن.
كان الحصان اليساري المتطرف، قد انتقل إلى الأمام نقلتين مميزتين، جعلت خطوط العدو تستنفر جميعها، لدراسة الرد على تحرك الحصان، وكانت عيوننا -نحن البيادق- مشدوهة بالحصان الشجاع، وقلوبنا ترقص نشوة وفخرًا، وعبر لحظات، استدار الحصان إلينا، وشرع يتحدث بلهجة خطابية قوية ومتقنة، عن الأخلاق القتالية، وعن التفاني في حماية حدودنا “الرقعية”، وعن المبادئ التي تجعلنا جنود الرقعة الساهرين على حماية كل مربع من مربعات رقعتنا الغالية، أتذكر أن أسلوبه سحرني، إلا أنني شممت في صوته الجهوري رائحة الدم.
لقد علمتني تجاربي أن أكون أكثر حكمة، فالحصان الذي أسهب في الحديث عن الرقعة المقدسة، ذكرني بأرواح أجدادنا الأبطال في زمان حروب الرقع الكبرى، وقد نسي -ربما- أنه تجاوز حدود مسؤولياته، فتم استدعاؤه على عجل إلى الخطوط الخلفية دون مبرر، وطال احتجازه في الخطّ الخلفي، حتى تجرأ فيل العدو الأسود، على إعلان هجوم مفاجئ من الزاوية اليمنى، حيث سمعنا صوته يرعد في الفضاء:
- كِشّ ملك.
حينها صدرت الأوامر للحصان اليساري بالتحرك والوقوف في وجه العدو دون حماية؛ ما أودى به إلى الموت بلا ثمن، وكان مضطرًا، بحسب قوانين الحرب، إلى الامتثال للأوامر كفارسٍ شجاع.
في الحقيقة، إنني كنتُ معجبًا -حد الهوس- بطريقة تصرّف وزيرنا الرصين، فهو يتمتع بالهدوء والدعة والرفاهية، ولا يتدخل إلا في الأحوال الصعبة. أعترف أنني مٌستلبٌ لشخصه، وبدأت أعتقد أن ذلك لا يعيب، لأن الحياة لا يمكنها أن تخلو من مثال نحتذي به، حتى لو وصل هذا الاحتذاء، درجة الاستلاب الكُلّي، لأن هذا التراتب الرُقعي الذي فُطمنا عليه، لا يمكن أن يتغير، ويبقى الطموح الذي يتملكني هو طموح شخصي بحت، ولا يمكن -في تصوري- لأي بيدق من بيادقنا أن يفكر مثلما أُفكر، أنا المتميز الوحيد عن قطيع البيادق، ولا بد أن أثبت ذلك.
مازال أمامي ثلاث نقلات، لكي أصل إلى خط الملك المعادي، ويبدو أن عقل وزيرنا المدبر، قد أدرك طموحي، فأصدر أوامره لحمايتي.
لقد أثار تصرفه الجدّي، دهشتي وحيرتي، على الرغم من أنني شعرت بالثقة العارمة تكلل خطواتي، حتى إنني بادرتُ، تحت مظلة الحماية، إلى قتل بيدق معاد حاول اعتراضي، وشكلّتُ بقتله نقلة إلى الأمام، وكانت نقلة نوعية في كياني أيضًا؛ حيث كان ذلك البيدق الأسود، أول بيدق أقتله في حياتي.. شعرت بالقسوة تجتاح كياني وتجعلني أضع نصب عيني هدفًا واحدًا، وبتصميم لا يقهر: سأصبح وزيرًا…
تحركت إلى الأمام، تحت مظلة الحماية التي تزايدت، وحرضتني على المغامرة. وقفتُ على مشارف العالم الجديد الذي تفصلني عنه نقلة واحدة، وعكفت منتظرًا الخطوة الحاسمة التي يفترض أن تقوم بها مظلة الحماية، بقتل الرخ المعادي مقابل بعض التضحيات، لتأمين انتقالي التاريخي إلى الأمام.
لم يكتمل شعوري بعظمة الموقف، حيث سمعت أمرًا غريبًا، كان عليّ -بموجبه- التقدم فورًا والتحول إلى وزير!! استرقت النظر إلى الوراء، رأيتُ وزيرنا الأبيض ينظرُ إلي، وعلى شفتيه ابتسامة غريبة، قالت لي نظراته الساخرة:
/ستتحول إلى وزير للحظات، لأننا سنبادلك برخ معادٍ، وفي هذا إحراز تقدم لنا.. فأنا لا أزال على قيد الحياة أيها البيدق الطموح/
رنّت في أذني عبارته الأخيرة، كأنها صدى نحاسيٌّ يقرع في عالم الآخرة، معلنًا وصولي إلى الجحيم.
ساهمت فرقة الجنود الاحتياط في إخلاء جثتي من ساحة المعركة، كنتُ مثخنًا بالجراح القاتلة، وفي لحظات الحياة الأخيرة، كنت أتطلع في وجوه البيادق؛ لأخبرها حقيقة واحدة، لم أدركها تمامًا إلا في هذه اللحظة الفظيعة، لقد تيقنت الآن، وبعد فوات الأوان، أن الطموح هو أعتى أشكال العبودية في هذا العالم الشطرنجي، وأن اللا جدوى هي الإجابة الوحيدة التي تنطلق منها طيور الأسئلة.