تحيل المآسي والأهوال في رواية “آخر ما تبقى من الزنبقة” للكاتب السوري إيهاب عبد ربه، الوطن إلى ذرات تراب، تتناثر خيامها على ضفاف حدود الغربة، وتأتي الشخصيات لتروي حكايات مشبعة بخيبات الآمال، في وطن لم يعد قادرًا على احتوائها إلا ضمن توابيت وحقائب، ترحل إلى مصائر مجهولة، ولا نكاد نلمح حضورًا للوطن إلا عبر استحضار الذكريات؛ ومع ذلك، نكتشف أن هذا الوطن -بكل مساحاته وأبعاده ومعانيه- لم يعد أكثر من “حظيرة بقر”. وبضياعه وتشرذمه تُخلق أوطان بديلة، لكنها لا تمنح السارد سوى ميزة السرد المأسوي، وغالبًا ما يأتي بضمير المخاطب، عسى أن يتم نقل القارئ من حالة الاغتراب، إلى الاستغراق في الحدث المسرود؛ ليغدو جزءًا من المأساة، ومشاركًا فعليًا فيها.
“سليم” شخصية تسرد ما مرّ عليها من أحداث، عبر رسالة موجهة إلى زوجته “جمانة”، و”توفيق” يحكي لـ “كارلا”، الموظفة في المنظمة الدولية، حكايته، والصحافي “عمران” يسرد أخبار “سليم” على مسمع الزوجة “جمانة”، ثم يأتي “أبو مراد”؛ ليسرد أحداثًا تخصه، على مسمع “توفيق” و”جمانة” و”حازم”. جل هذه المسرودات صيغت في قالب حكائي، تتداخل فيه الأحداث ويتمم بعضها بعضًا، فمن حكاية “سليم” المنشق عن الجيش، وافتراقه عن زوجته، بعد أن اضطرّ إلى حمل السلاح، إلى حكاية “توفيق” الذي أيّد الثورة، ووقف ضدّ تسلحها؛ ما جعله في نظر رفاقه عدوًا للثورة، لننتقل بعدها إلى حكاية “جمانة”؛ حيث غدا وطنها عبارة عن خيمة “مشلوحة” في عراء الغربة. وعلى هذا النحو يتواصل النسيج الحكائي؛ حتى الوصول إلى مرفأ الهجرة، وهناك تتلاقى معظم الحكايات والأحداث، ولكن مع افتراق الشخصيات، على الرغم من تشابه مصائرها؛ فمصير “سالم” الذي غيبه الموت، مقابل مصير “جمانة” التي تقف على مرفأ بحري، حاضنة طفلتها “رزان”، قاصدة الهجرة إلى أوروبا بصحبة “توفيق” الحبيب، أو الزوج البديل عن “سالم”، ويكون مصيرها ومصير “توفيق”، الغرق بعد تحطم القارب، فتندّ عن جسدها نشوة جنسية، فجرتها يد العجوز “أبو مراد”، أو لعلها آخر أنفاس لفظتها في وداع الحياة.
إن كل سارد في هذا العمل الروائي يساهم في تشريح ما آل إليه الوطن؛ ففي بداية النسيج الروائي يبتكر عبد ربه، أداة سرد تتمثل في رسالة تأتي على لسان “سليم”، يلحظ فيها تأرجح الحيز المكاني والزماني، بين وطن جمع حكاية عشق وحب بطلاها “سليم” وزوجته “جمانة”، وبين وطن يرشح بالموت، وتضيع فيه العناوين، وبين ماض يستعاد تذكره بصعوبة بالغة من جرّاء اكتساح اللحظة الحاضرة، بكل ما تحمله من ضياع وقلق، وبين حاضر مشبع بالعبثية.
أول ما تطلعنا عليه الرواية عبارة يطلقها “سليم”، تلخص حالة الوطن: “عندما يصبح الوطن بحجم رصاصة، فلا بدّ من حزم الحقائب”؛ ففي سعير القتل والموت تغدو المصائر البشرية في ذروة الفجيعة، وتحل الرصاصة ككناية عن وطن تحول إلى سجن أو تابوت، وعندما تتقطع سبل تواصل “سليم” مع زوجته “جمانة”، يستعيض عن ذلك برسالة؛ ولكي تكتمل فاجعة تمزق الأوطان وتشظيها، لا تصل تلك الرسالة، إلا ويكون “سليم” قد غيبه الموت، وتكون “جمانة” قد فقدت صلتها بالوطن وبزوجها، وغدت شخصية تفترق كثيرًا عن تلك التي تعرفنا إليها من سياق الرسالة، فنلمح تحوّلًا كبيرًا قد طرأ عليها، وتعطلت لديها كل الذكريات الجميلة، وما عاد الوطن بالنسبة إليها أكثر من خيمة تحمل رقم 568.
ومع غياب السارد الأول، يبتكر عبد ربه ساردًا جديدًا، يسرد بضمير المخاطب عبر شخصية “توفيق” الذي يوجه خطابه السردي إلى “كارلا”، والتي تظهر بخلاف جمانة، المغيبة في مبتدأ السرد الأول، الحاضرة بكل تفاصيلها وكيانها، فيلجأ الراوي -هنا- إلى ممارسة السرد بضمير الغائب والحاضر معًا؛ ليتسنى له وصف رحلة “توفيق” وصديقه “حازم”، المتوجهين إلى مكتب “كارلا”، ووصف ردود أفعال الأخيرة إزاء ما تسمعه عن العذابات التي تكبدها “توفيق” في أثناء محاولة فراره من وطنه، وإلقاء القبض عليه من جماعة “أبو عياش”.
ثم ننتقل إلى سارد جديد، وهو الصحافي “عمران” الذي يأتي باحثًا عن جمانة؛ ليسلمها رسالة “سليم”، وهنا أيضًا، ينزاح السرد بضمير المخاطبة، بين حين وآخر؛ ليحل محله سرد بضمير الغائب، فيتم وصف عملية البحث عن “جمانة” في المخيم، والحالة المزرية التي حلت بها؛ ليغدو الحيز المكاني مناقضًا للحيز المكاني السابق؛ فـ “جمانة” تكون قد هُجّرت من وطنها، تحت قصف البراميل والطائرات؛ لتستقر في خيمة رقمها 568، بينما “كارلا” تستقر في مكتب فاخر أنيق، تمارس فيه مطلق حريتها؛ كناية عن الأوطان التي غدت مقر عمل لها، بحكم انتمائها لمنظمة أوروبية، لا يعنيها سوى إحصاء عدد الضحايا الذين كفنهم الوطن، من دون الاكتراث بالأحياء منهم، وقد استدعت “كارلا” “توفيقًا”؛ لتسمع منه الحكاية، وتسجل الأحداث الجارية في سورية على شريط مسجل (كاسيت). يوحي السرد -هنا- بأنه موظف لغاية غير روائية، لكنه -في المحصلة- يسرد أحداثًا روائية، تنقلنا معها إلى تفاصيل الأحداث المأسوية.
في أثناء لقاء جمانة بتوفيق في مرفأ الهجرة، يطل علينا سارد جديد يتمثل في “أبو مراد”، تحرضه الشخصيات التي يحكي لها المزيد عن مأساته؛ لنطلع على قصته وهجرته من مخيم اليرموك في دمشق، بعد تعرضه للقصف والدمار، وما إن يجتمع النسيج الروائي السردي؛ حتى تكون جميع الشخصيات قد أضحت منفصلة -تمامًا- عن الوطن، وباتت على موعد مع موت من نوع ثان؛ وكأن الانفصال عن الموت برصاص الوطن، يقابله موت في البحر، مع أمل يكاد يلوح من خلال إنقاذ الطفلة “رزان” التي هي آخر من تبقى من زنبقة الوطن؛ لكن إنقاذها يأتي مشوهًا ومناقضًا لمفهوم الوطن، لكونها لم تعد تحمل شيئًا من هوية الوطن، بل أضحت هويتها إسرائيلية، بعد أن اضطرّ “أبو مراد” الذي أنقذها من الغرق على حمل تلك الهوية؛ ليؤذن له ولها ، بالدخول إلى وطن آخر يحميه، ويوفر له وللطفلة “رزان” النجاة من الغرق في بحار الوطن العربي الآسنة والمميتة.