لطالما كانت الأشياء نسبية في الحياة، فكل ما على الأرض يحتمل الصواب والخطأ، وكل فكرة -على وجاهتها- حمالة أوجه، وهذا ما يجعل للكلمات معاني وتفسيرات، ويجعل للأفكار طرائق من الفهم، يختلف البشر عليها أو يتفقون.
بين هذه الثنائيات الكثيرة، يتسيد الأبيض والأسود، والخير والشر، والحرية والعبودية، والحقيقة والخيال، والحقيقي والمتخيل، إلى جانب ثنائيات أخرى، لا تعد ولا تحصى، ولكن الثنائية الأكثر أهمية وانتشارًا وتأثيرًا تبقى ثنائية الكفر والإيمان، وهي ثنائية صبغت حياتنا البشرية منذ قديم الزمان، وكانت البشرية في حالة من الصراع بين الخير والشر، على اختلاف البشر في تعريف ما الخير وما الشر.
وبعد ذلك انتقلت هذه الحالة إلى مرحلة جديدة من الصراع بين الكفر والإيمان، وبين الكفار والمؤمنين، واندلعت حروب طاحنة بين الجانبين، لا تزال تدور رحاها حتى الآن، وهي باقية إلى ما شاء الله.
هذه الصورة المصغرة والمكثفة لواقع شديد التعقيد، تنقلنا إلى السؤال البدهي عن المرجعيات التي تحكم تعريف الأشياء، وعن الكيفية التي تمت بها بناء هذه الأشياء، وتحويلها إلى واقع ملموس، أو مرئيات لا يمكن تجاوزها، يتصارع عليها البشر إلى درجة الإفناء في بعض الأحيان؛ ما يجعل منها محددات حقيقية لحقائق أو أوهام، تكلف البشرية كثيرًا من الأرواح والدماء والزمن؛ ما يدفعنا إلى محاولة البحث عن تعريف للأشياء أو تعاريف للمفاهيم، التي تستوطن الحالة الإنسانية جمعاء، أي إلى “البحث عن الحقيقة”، وهذا ما جعل الناس ينقسمون إلى ثلاثة أصناف: بين من يرى الحقيقة في الفلسفة، ومن يراها في العلم، وآخرون، وهم الغالبية العظمى، يرونها في الدين.
لقد فشلت الفلسفة تاريخيًا بتقديم إجابات شافية عن الأسئلة الوجودية للإنسان، على الرغم من المحاولات التي واكبت البشرية منذ آلاف السنين، وفشل العلم في تفسير الظواهر “اللا مخبرية”، واحتار العلماء في كيفية “تجريب ما لا يجرب”، ووقفوا عاجزين أمام الحالة الخارجة عن القياس والمعايرة، ولم يبق غير الدين الذي قدم إجابات شافية عن الأسئلة الوجودية، سواء تلك التي تتعلق بالمنطلقات والبدايات، أو الخواتيم والنهايات، وما بعد النهائيات المرئية، أو فيما بينها المنطلق والخاتمة.
يحتج بعضهم بأن العالم تسوده أديان، وليس دينًا واحدًا، وأن الناس مختلفون في أديانهم، كما يختلفون في أفكارهم ومشاربهم، وأن كل واحد منهم يعتقد أنه على الحق، وأن الآخرين هم الخطأ الكامل؛ وبالتالي، فإن الخير والحق معهم، بينما يفتقر الآخرون كلهم -بلا استثناء- إلى قيم الحق والعدل، وهذا واقع حقيقي لا مراء فيه، فالناس لا يزالون مختلفين، وهذا الاختلاف سيبقى إلى يوم القيامة.
تقودنا هذه المعطيات إلى طرح أسئلة كبيرة: ما الدين الحق؟ وما موقع الأديان والأفكار والعقائد الأخرى من أصحاب هذا الدين؟ وهل يمكن التعايش بين هذه الأديان والأفكار، أم ان التنافر سيد الموقف الدائم؟
إذا كان لكل إنسان معياره في الحكم، فعلينا جميعا أن نتفق على معيار موحد، يقيم الحجة علينا جميعًا، تمامًا كما اتفقت البشرية على أن المتر يتكون من 100 سنتيمتر، وأن هذه الوحدة القياسية غير قابلة للتشكيك، من حيث الزيادة او النقصان، أو أن الساعة 60 دقيقة، وأن كل دقيقة 60 ثانية؛ الأمر الذي بات في حكم البدهيات غير القابلة للنقاش، وصارت -بالتالي- هي الحكم بين البائع والمشتري في محل بيع الأقمشة، أو في قياس الزمن لرياضيين يتنافسون في مضمار الجري.
هذا يدفعنا إلى البحث عن وحدة معيارية للأفكار، نقيس بها جودتها، وصحتها أو خطأها، وقد نجحت البشرية في اختراع قواعد للحكم على بعض الأشياء، مثل النصوص الأدبية، أو القصائد، والنثر والبلاغة، وغيرها من الفنون غير القابلة للقياس التجريبي في المختبر، كما نجحت البشرية في سن قوانين؛ لتطبيق ما يسمى “العدالة” على الناس، وبين الناس. وهي محاولات أفادت البشرية كثيرًا، لكنها على الرغم من ذلك، بقيت موضع خلاف بينهم.
لقد كانت هذه القواعد مجرد عمليات توافق بين البشر على “مفاهيم” معينة للعدالة والإبداع والجودة، وهي ليست -بالمطلق- صحيحة، ولكن البشرية -أو فئات منها- اتفقت على اعتمادها كمرجعية للاحتكام إليها، لفك الاشتباك بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، وبين ما يُعدّ خيرًا وما يُعدّ شرًا، إلى آخر ما هنالك من تمايزات ثنائية.
من يختار هذه القواعد المرجعية، ومن يفرضها، ومن يجعل منها قواعد مقبولة بين الناس، أو ما يطلق عليه “مجتمع”، هل النخبة أم العامة، الأكثرية أم الأقلية، الأقوى أم الأضعف، من يملك السلطة أم “الشعب”…إلخ.
اختلفت الآراء في تحديد الجهة المرجعية لوضع هذه القواعد، هل هي سماوية أم ارضية، وهل تأتي من الوحي أم من العقل، أم تاتي نتيجة لما أطلق عليه التطور و”الانتخاب الطبيعي”، القائم على احتمالات غير ثابته، يتم فرضها بقوة السلطة أو التسلط على أنها مرجعيات ثابتة غير قابلة للنفي.
هنا يبدأ الاختلاف والاحتراب والقتل، وهنا تسيل الدماء أنهارا؛ لإثبات وجهات النظر، وهنا تتحول هذه الأفكار إلى الغام متفجرة، لا تنتج إلا القتل والدمار، مرة باسم السماء، ومرة أخرى باسم العداء للسماء؛ ما يشرع الأبواب أمام تساؤلات لا نهائية عن “المخبولين”، الذين يقودون العالم والإنسان، إلى الدمار الروحي والنفسي والاخلاقي والمادي.