كثير من القراء والمتابعين لا يعرف حماة، إلا من خلال ما جرى فيها ولها، في ثمانينيات القرن الماضي، على يد الأسد الأب، ومعظمهم لا يزال يحمل أفكارًا عن المدينة من خلال الحملة الإعلامية الضخمة، التي شنّتها أجهزته لتشويه تاريخها، ودفع ما تبقى من أهلها إلى زوايا التعفن، الذي يبيح لمثل نظام الأسدين أن يصبّا جام غضبهما عليها، ويبررا التوحش الذي تعاملا به معها.
شهدت حماة -المدينة- في تاريخها المشترك مع ثوار سورية، أيام الاحتلال الفرنسي، نضالًا متعدد الجوانب؛ فقد كان شبابها ممن تقدّم ساحات القتال، واستطاع أن يحقق انتصارات عديدة على الجيش الفرنسي المتمركز فيها، وقُصفت بطيرانه، والأهم أنها كانت من أُولَيات المدن السورية التي شكلت ما يشبه النقابات إلى حدٍ كبير، وهي من ربط التحرر من الاستعمار بكشف أذنابه من شيوخ الدين الذين تعاملوا معه في الواقعة الشهيرة “حراسة صناديق الانتخابات”، في ثلاثينات القرن الماضي، كما تطوع شبابها على رأس جيش الإنقاذ المتوجه لتحرير فلسطين، بعد الاستقلال عام 1948، ومن الذين اهتموا بالعمل المدني، فشكلوا نوادي ثقافية ورياضية واجتماعية، وتكاد تكون المدينة الوحيدة التي قادت النضال الثقافي والاجتماعي ضد الإقطاع وحلفائه –وقتذاك- من الأخوان المسلمين، وفي المرحلة البرلمانية، كان نوابها هم قادة القرار المستقل، على الرغم من عددهم المحدود.
ذلك التاريخ المشرق للمدينة التي عمل شبابها طويلاً على توعية أبناء الريف، ولا سيما الريف العلوي، وساعدوهم في رفع المظالم الإقطاعية عنهم، وعلى الانخراط في المدارس والتعلم، عمل الأسد الأب على طمسه، وإشاعة صبغة التطرف الديني والطائفية، حتى بات الطرفان يصدقان ما يُقال.
في الثمانينيات، لم ير الأسد الأب من نضال حماة بيانات النقابات التي تبدأ بالعبارة الوطنية المشهورة “الدين لله والوطن للجميع”، ولا الشباب التقدمي الذي قاد تلك النضالات، لكنه رأى ما صنعته يداه من اجتثاث أولئك، وتسليط الرعاع المتطرفين عليها، ليُدمّر المدينة باسم إرهابهم، تمامًا كما اجتث الابن كل ذي رؤية إصلاحية نهضوية أوائل الثورة، ودفع البقية إلى حيز ردود الفعل، وأوقع السوريين في شبهة الإرهاب.
كان المحللون السياسيون يُقلّبون الأوجه في الأسباب التي دفعت الأسد الأب إلى التعامل مع المدينة بهذه القسوة، لدرجة أنه كان يُمسك الهاتف مشرفًا على عدد المدنيين الرجال، ابتداء من الثالثة عشرة الذين أخرجتهم قواته من غرف نومهم صباح الجمعة، ووضعتهم صفوفًا على حيطان الحارات وقتلتهم بالرصاص، ثم أوقف القتل عندما بلغ النسبة التي أرادها من عدد سكان المدينة، كان السؤال المحيّر: لماذا فعل حافظ الأسد تلك المجزرة، أما كان باستطاعته الاحتفاظ بسلطته دونها، أم لمآرب أخرى كانت مبيتة.
فهم أهل المدينة الدرس جيدًا، وكشفوا اللعبة، ولمسوا من الابن وحاشيته مزيدًا من الحقد الذي تعامل الأب به، ورأوا الاستعدادات العسكرية الهائلة في مطارها غربًا، وتمركز ألوية ثلاثة على جبل زين العابدين الذي يحدها شمالًا، وتعزيز اللواء 47 بالدبابات الحديثة جنوبًا، وأُسكنوا في نادي الفروسية، الذي أقيم فوق المقابر الجماعية لطمس أثرها، والذي يحدها شرقًا، الروس -المقاتلين والمستشارين- بعد أن نقلوا منه الإيرانيين، وملؤوا قلعتها وسط المدينة بأنواع الأسلحة الفتاكة.
عرف شباب المدينة أن ما يُحضَر لها ليس أقل من الدمار الشامل، وكأن النظام يثأر منها على طريقة “يرضى القتيل وليس يرضى القاتل”؛ فاكتفوا بأهم مظاهرات سلمية قربت من المليون، لا تزال تتصدر إعلاميًا مرحلة النضال السلمي، وانسحب من أبنائها مشاركًا الفصائل المسلحة من أراد القتال في مرحلة العسكرة، لكن الرأي المتفق عليه منذ سنوات أربع، أن تتجنب المدينة ما استطاعت تقديم ذريعة الدمار الشامل لهذا النظام الحاقد، وتحولت إلى ملاذًا للجوء، حتى بلغ عدد سكانها المليونين أو أكثر، بينما هجرها شبابها، إما التحاقًا بالفصائل، أو هجرة في عباب البحار، حتى لا يُجندهم النظام في صفوفه باسم قانون الجندية الإجبارية، ويصطادهم بالحواجز المتعددة والمتحولة، لكنَ المعارك الأخيرة أعادتها إلى الواجهة مرة أخرى، فبعد أن شارك شبابها المقاتل مع شباب المدن الأخرى في فك الحصار عن حلب، انسحبوا إلى ريفها الهادئ نسبيًا، بسبب انشغال القوات الموالية للنظام بمعارك حلب، وعندما لاحظوا غلبة تلك القوات في مناطق في حلب، كانوا قد حرروها، أشعلوا الريف الحموي، وتقدموا وحققوا نجاحات غير قليلة، ووصلوا إلى تهديد المطار ومعسكرات جبل زين العابدين، وبدأت حماة تتصدر المشهد الإعلامي.
انقسم الرأي بعد تحقيق تلك الانتصارات، فمنهم من رأى دخول المقاتلين الثوار إلى المدينة وتحريرها، بعد أن تعرضت إلى استفزازات من الحواجز والشبيحة، لا يُمسك تجاهها نفسه إلا من رُزق إلهامًا إلهيًا بالصبر، وآخرون رأوا الدخول إليها فخًا ينصبه النظام؛ لتفريغ الحقد القديم الجديد عليها، ولا سيما أن تحرير مدينة لا يعني إسقاط النظام، ولا يعني أن تحريرها سيكون نهائيًا، وقد ينزلق الأمر إلى تحقيق الحدود المرسومة للإمارة العلوية، التي ربما أفحش الأسد الأب بحماة من أجلها، فيصبح الأمر بدل أن تكون حماة مانعة للتقسيم تتحول إلى مُيسِّرة له.
لكنَ اتفاقًا ما قد حدث، بأن تتشكل -منذ اليوم- قيادة مدنية – عسكرية، تُديرها مدنيًا وعسكريًا، وأن تعمل فصائل الثورة المقاتلة على إسقاط خطر التمركز العسكري الهائل حول المدينة، ثم تقوم بتنظيفها وتنسحب؛ لتسلمها لإدارة مدنية.
قد يُعيد اشتداد المعارك في حلب الحسابات مرة أخرى، كما يُعيدها وضع الغوطتين، فلا يجوز أن يُبحث أي أمر بمعزل عن الآخر، أو خارج حساب الربح والخسارة، بالمعيار الإنساني أولًا وآخرًا، فما الفائدة من تحريرٍ يُدمِّر الحجر والبشر، ولا يدخل ضمن استراتيجية تشمل الأرض السورية كلها، ولا يُشكّل موقفًا ثابتًا في أي مفاوضات بين الكبار، الذين يديرون لعبة الموت الأسود!