هو ابن الفرات، تكنى به وتتبع خطاه؛ فكان لحنًا صاغ المحبة في شعره، وطيرًا يغرد في سماء الحرية الواسعة، متنقلًا بحلمه بين بلاد العرب، وبفكره بين ثقافات الشعوب.
وُلد الشاعر السوري محمد بن عطا الله بن عبود، المًلقّب بـ “الفراتي” (كان يوقع قصائده بهذا الاسم)، عام 1880 في مدينة دير الزور، درس في مدرسة الرشدية، التي نصح معلموها والده بأن يُنمّي مواهب ابنه التي لا تسعها مدارس ذلك الوقت، فاتصل بالشيخ حسين الأزهري، وانتقل إلى حلب ليتتلمذ ابنه على يد الشيخ محمد الزعيم، وتنقّل من حلب إلى بيروت، فيافا، ثم القاهرة، ليلتقي الفراتي بالنيل في العاصمة المصرية، كطالب في الأزهر، وليقيم في رواق “الشوام”، بإشراف الشيخ سليم البشري الذي كان عميدًا له.
في القاهرة بدأت مرحلة جديدة من حياة الفراتي الطالب الأزهري، مع كل من طه حسين وعبد القادر المازني وأحمد الكرمي وزكي مبارك، استمرت حتى اندلاع “الثورة العربية الكبرى”، ليشد رحاله من جديد ملتحقًا بها، وعن هذه الفترة يقول الفراتي في حوار له مع بشير العاني: “حين قامت الحرب العالمية الأولى، كنت في مصر، وعلمتُ أن رجلًا في الحجاز، يُقال إنه من آل البيت، قد ثار على الدولة، فاستغربت في البداية كل الاستغراب! فتحريت عن ثورة هذا الرجل، فتأكد لي أنه (يريد إيقاظ العرب وتحريرهم)، تشاورت مع إخوتي الذين أنهوا تحصيلهم في الأزهر، في فكرة الانخراط في الثورة وتحرير البلاد، فوافقني في ذلك كثيرون، وأغلبهم من فلسطين، وحين قابلت الأمير فيصل، طلب مني أن أكون المفتي للجيش الشمالي، وأن أهيئ له الخطب الحماسية قبل المعركة، وذلك بعد أن رأى ضعف بصري ونحول جسمي. بيد أنني أبيت إلا أن أخوض المعركة بنفسي، وقد أنعم عليَّ الأمير فيصل برتبة ضابط بعد أن سمع بذلك”.
سرعان ما خابت آمال الشاعر العظيمة في الثورة، بحيادها عن مبدئها، ليرحل باحثًا في ثورة سعد زغلول في مصر عن غايته المنشودة، ولكنها أيضًا لم تُلبِّ تطلعاته، فقفل عائدًا إلى دير الزور، مفجوعًا بخيبة أمله، وباحتلال الإنكليز لهذه المدينة، ومن ثم الفرنسيين، فيعمل مدرسًا للغة العربية والتربية الإسلامية في ثانوية “التجهيز”، وهي أول ثانوية في المنطقة، مُقدّمًا شعره وفكره للطلاب، شاحنًا فيهم عزيمة الثورة، ويعلن عصيانه على الفرنسيين، ميمّمًا صوب العراق ثم البحرين، التي عمل فيها ثلاث سنوات، انتهت بخلافه مع مدير المعارف فيها.
اصطبغ الفراتي بالصبغة القومية الإسلامية، فهو العربي المسلم الذي عشق العربية، وأتقن الفارسية والتركية، وهو الثائر المدافع والمنافح عن قومه ودينه، المعادي للاحتلال، والحاث على الثورة، وهو الذي قال:
انهضْ وروِّ العـــوالي من عداكَ دما / واستنهضِ السيفَ والقرطاسَ والقلما
شُــلَّتْ يميني وبانَتْ إثرهــــا عنقي / إن كنتُ يومًا بغيرِ الســــــيفِ معتصما
يرومُ منا اسـتلامَ الديرِ عن عرضٍ / أهلاً بمن للمواضي جاء مســــــــــتلما
عاد الفراتي إلى مدينته دير الزور، فتم تعيينه أمينًا عامًا للمكتبة الوطنية، واستمر في تدريس اللغة العربية، وفي سني حياته الأخيرة، تفرغ لترجمة الشعر الفارسي الذي كان هائمًا به، ولاسيما الشيرازيين: سعدي وحافظ، وجلال الدين الرومي، والرودكي الأعمى، فقد كان يعدّهم من أعظم الشعراء الذين أنجبتهم الإنسانية.
اعتُبر واحدًا من ستة شعراء أسسوا حركة الشعر السوري بداية القرن العشرين، إضافة إلى كونه مترجمًا وفيلسوفًا، هو رسّام وفلكي، حاول تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم تفسيرًا علميًا، والأهم أنه رجل نضال وطني وثائر من الطراز الأول.
توفي عام 1978، تاركًا وراءه العديد من الدواوين الشعرية، والترجمات عن اللغات الفارسية والتركية، نذكر منها ديوان العواصف، ديوان الهواجس، ديوان النفحات، وديوان سبحات الخيال.