قضايا المجتمع

الإسلام العلماني المتطرف

تنشط الحركة في العديد من العواصم الأوروبية، وباريس على وجه الخصوص، بين الفاعليات المختلفة، لـ “تدجين” الإسلام الأوروبي، وتخليصه من الشوائب التي علقت به، والتي يُصرّ المتحدثون باسم المسلمين في فرنسا على أنها شوائب يمكن التخلص منها، ويؤكدون أن الإسلام ركن أساسي من المجتمع، ولا يمكن -بسهولة- رجم “الديانة الثانية” في الدولة العلمانية، بتهمة الإرهاب؛ بسبب أعمال خارجة على المألوف، قام بها “بعض” المسلمين الأوروبيين، وخاصة بعد أن تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من استقطاب مئات الشباب؛ ليكونوا مقاتلين وقياديين في صفوفه، وليضع أوروبا بأكملها أمام سؤال ربما لم تكن راغبة في طرحه على نفسها وهو: أين أخطأنا؟ إذ لا بد من وجود خطأ ما في المعادلة، جعل أولئك الشباب يُفضّلون اللحاق بركب التنظيمات “الإرهابية”، والسفر آلاف الكيلومترات للانضمام إليها، وهم يدركون، سلفًا، أنهم يُلقون بأنفسهم إلى مجهول، سيقودهم -في أحسن الأحوال- إلى قضاء سنوات طويلة من أعمارهم خلف القضبان، وقد وضعت الحوادث التي ضربت بعض المدن الأوروبية -خلال السنتين الماضيتين- الحكومات الغربية في مواجهة مفتوحة مع احتمالات، لم يكونوا راغبين في التفكير فيها، في الوقت الحالي على الأقل، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المضطربة التي تعاني منها أغلب الدول، والأزمات التي ترفع شيئًا فشيئًا معدلات البطالة، وتحمل معها نُذر انفجارات أكبر في حال لم تُعالج القضية بشكل عقلاني، لا على طريقة اليمين المتطرف الذي يدعو -علانية- إلى إقامة أسوار عازلة، وإغلاق كلي للحدود، بل وعزل أولئك “المسلمين” في معسكرات، وهم لم يعودوا يُبالون في خطابهم ذي الطابع العنصري، لا بالقوانين ولا بالدساتير، إذ ثمة ذريعة الأمان وحماية المواطنين الجاهزة؛ لمواجهة أي انتقادات قد تُوجه إليهم.

لكن، لماذا أنتجت المجتمعات العلمانية المتطورة إسلامًا متطرفًا ميالًا إلى التدمير؟ وهل أساءت تربية أجيالها إلى الدرجة التي جعلتهم يكرهون انتماءهم إليها، ويفضلون تدميرها؟

تبدو الإجابة عن هذين السؤالين أقرب إلى الفخ، ويمكن لأي ارتباك في الإجابة أن يوقعنا فيه؛ إذ إن أغلب حاملي الفكر المتشدد هم أوربيون، ولادة ونشأة، لكن معظمهم من أصول مسلمة، وقد عاشوا -خلال السنوات الأخيرة- منعزلين ضمن مجتمعات شبه مغلقة، حرصت كل الحرص على عدم اندماجهم الكلي في المجتمع العام؛ ما جعلهم غير قادرين على قبول ذواتهم المختلطة، وهي أزمة انتماء معقدة نوعًا ما، ولا يمكن الركون -إطلاقًا- إلى التبرير العدواني الذي أطلقه بعض المحرضين اليمينيين في فرنسا خاصة، والذي وجه سهام الاتهام إلى أولئك الأئمة الوافدين من الخارج، والذين “لعبوا بعقول شبابنا”، هكذا حرفيًا، وجعلوهم يكرهون بلدانهم، فهو لا يختلف في شيء عن الاتهام الذي ساقته بعض الأنظمة العربية؛ لتبرير خروج الشعوب ثائرة ضدها، حين عدّت الشعوب تقبض من جهات خارجية، وقد يذكر الجميع أن رأس النظام الأسدي لا يتوقف عن سوق ذلك التبرير السخيف، دون أن ينظر إلى الأسباب الحقيقية، والتي تتمثل في الاضطهاد والفقر وقمع الحريات، وما إلى ذلك من قائمة الأسباب التي أدت إلى الانفجار الذي عُرف عالميًا باسم الربيع العربي، وإذا كانت المقارنة تحمل نوعًا من المفارقة، إلا أن الإصغاء إلى بعض أقطاب اليمين الأوروبي، وهم يتحدثون، يُحيلنا -بالضرورة- إلى عدّ كلامهم هروبًا إلى الأمام، وترحيلًا للمشكلة برمتها، ولعله من المفيد التذكير بأن الإسلام الأوروبي ليس طارئًا على الحياة الأوروبية، وليس نباتًا شيطانيًا ظهر فجأة؛ إذ يعود بناء أول المساجد في أوروبا إلى أكثر من مئة سنة مضت، ولم تشهد أي من المدن الأوروبية -خلال قرن من الزمن- نزوعًا إسلاميًا إلى التطرف، إلا حين بدأت أوروبا نفسها تنظر إلى المسلمين على أنهم قنابل موقوتة، قادرة على قيادة طائرات ركاب وتدمير مبانٍ حضارية، مثلما حدث في الولايات المتحدة في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهو التاريخ الذي يمكن وصفه بنقطة الصفر التي أُعلن فيه الشقاق داخل المجتمعات الأوروبية، وفصل فيما بينها، وحوّلها إلى “أوربيين” و”مسلمين”؛ لذلك، فلم يكن مستغربًا أن يُعدّ استبعاد اللاعب الفرنسي “كريم بنزيمة” من قائمة منتخب بلاده، خلال كأس أمم أوروبا الأخيرة، نوعًا من العنصرية التي مارسها مدرب المنتخب؛ لأن بنزيمة مسلم.

أمام هذه الحالة التي تُنذر بمزيد من التوتر، في حال تم تجاهل المشكلة الأساسية، والالتفات دومًا إلى تبريرات لا عقلانية، يبدو الأمر قابلًا للتطور أكثر فأكثر، مع استمرار التحريض الذي بات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية؛ للوصول إلى السلطة، وهو يخلق -في المقابل- يمينًا أشد تطرفًا في أوساط بعض الجاليات المسلمة، وخاصة تلك التي تعدّ نفسها جزءًا من المجتمعات الغربية، وباتت اليوم منبوذة، ويلاحقها خطاب عنصري، يضيّق الخناق عليها بسبب اللباس أو الاسم أو الشكل؛ ما يفتح المجال واسعًا، كما حدث من قبل ويحدث حاليًا، أمام هجرة نحو التطرف، يشرف عليها أئمة ودعاة، لا بشكل مباشر، وإنما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما تشير العديد من الحالات السابقة، فالرقابة قادرة -بكل تأكيد- على فرض سيطرة من نوع ما على تحركات أو أقوال الأئمة ذوي التوجهات الراديكالية في أوروبا، فقد أغلقت فرنسا، وخلال عام واحد، أكثر من عشرين مسجدًا وقاعة صلاة صنفتها ضمن خانة التطرف، وحكم القضاء البريطاني -في الآونة الأخيرة- بالسجن خمس سنوات ونصف على الداعية البريطاني “أنجم تشودري”؛ بسبب التحريض على العنف ودعمه تنظيم (داعش)، لكن مئات الدعاة المتطرفين المنتشرين عبر الفضاء الافتراضي بأسماء وهمية، في الكثير من الأحيان، تبدو السيطرة عليهم صعبة؛ لذلك، فإنهم باتوا يجدون في البيئة الأوروبية المرتبكة، بفعل ما ذكرناه من عوامل، تربة خصبة لنشر أفكارهم وتجنيد الشباب من الجنسين، وتسهيل عملية نقلهم وانتقالهم إلى “دولة الخلافة” التي تداعب حلمًا باستعادة “أمجاد المسلمين” والانتصار على “معسكر الصليبيين”، هكذا حرفيًا، لأن زمن الحروب الصليبية لم ينته بعد بالنسبة لهم، وقد لعبت البروباجندا المرافقة لـ “الانتصارات” التي حققها تنظيم (داعش)، سواء في سورية أم في العراق، ضد “قوى الشر والكفر”، دورًا كبيرًا، قد تتحمل بعض وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فيه، في منح الدعاة دفعة معنوية، سهّلت عملهم وقدرتهم على الإقناع، وكأن انخراط بعض المسلمين الطويل في المجتمعات ذات الطابع العلماني، لم يستطع أن يمحو تلك “الأحقاد” من ذاكرتهم، فلم يصبحوا علمانيين بل تحولوا إلى راديكاليين، يضاف إلى ذلك أن “جهلهم الكبير” بأصول الدين، بل وباللغة العربية نفسها، لأن كثير منهم لا يتحدث العربية أصلًا، يُسهّل مهمة الدعاة، ويجعل عقول الشباب المتأثرين مفتوحة؛ لتلقي ما يتم اصطفاؤه بتنظيم شديد من آيات وحكايات، تجعل أمر تجنيدهم يسيرًا وغير عسير.

هل تُمثّل الطريقة الفرنسية في معالجة المشكلة، من خلال توطين الإسلام الفرنسي وقوننته، وفصله عن سواه من الإسلام في دول أخرى؛ بحيث يتم التفريق -مستقبلًا- بين إسلام فرنسي وإسلام تونسي أو سعودي أو سوري، حلأ ملائمًا، يساهم في القضاء على ظاهرة التطرف في المجتمعات العلمانية، واقتلاعها من جذورها، أم أنه مجرد حل موقّت لن يلبث أن يتبدد فور وقوع حادث إرهابي سيجدّ، بكل تأكيد، من يتبناه ويتفاخر به من التنظيمات التكفيرية، أو ربما بمجرد قرار ارتجالي، قد يُتخذ من إحدى البلديات، كما حدث عقب حظر لباس السباحة الإسلامي المعروف بـ “البوركيني”؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق