لم يكن مُستغربًا، أن يختار بشار الأسد “داريا” لظهوره أول أيام العيد، بعيدًا عن مفردات الأخلاق والخجل، بل ربما كان عاديًا، أن يوظف “صلاته” في سياق الاستثمار السياسي إلى أقصى حد ممكن، لما يعدّه انجازًا عسكريًا في سحق “مدينة” شكّلت رمزًا ثوريًا وطنيًا خالصًا، في زمني “الورد والسلاح”.
لا شك في أن أمراضه النفسية، وشخصيته (السيكوباتية)، كانت المحرك الأول في معظم تصرفاته، منذ ما قبل الثورة، وصولًا إلى ارتكابه المجازر المتنقلة، لكن في “صلاة داريا” ثمة رسائل سياسية، لا علاقة مباشرة لها بتلك الأمراض وعوارضها.
هذه “الصلاة”، هي بمنزلة التدشين الميداني، شبه المعلن، لما بات يُعرف بـ “سورية المفيدة”، والتي أشار إليها الأسد مواربة، في خطابه الشهير أواخر حزيران/ يونيو 2015، عندما أفصح عن نيته التمسك ببعض المناطق، وتخليه عن أخرى. في حين ألمح إلى نيته في مواصلة “التغيير الديمغرافي” بقوله: إن “سورية لمن يدافع عنها أيًا كانت جنسيته”، عدا عن كونها رسالة طمأنة إلى “الموالين”، الذين فقدوا ثقتهم باستعادة “أسدهم” سيطرته على سورية كاملة، لصالح ثقة أقل طموحًا، غير أنها تحفظ مصالحهم وأمنهم، في “سورية مفيدة” لهم دون سواهم، على ما يأملون.
عمومًا، يبدو أن ما قبل (داريا) غير ما بعدها؛ إذ لأول مرة، تنقل مواقع إعلامية موالية للأسد، عن قيادات عسكرية في جيشه، استبعادها عودة أهالي المدينة إليها، بعد تهجيرهم منها إلى مراكز إيواء في حرجلّة، إضافة إلى ما تداوله ناشطون من أنباء عن نية الأسد بتوطين نحو “300” عائلة من ميليشيا “النجباء” الشيعية العراقية في المدينة، فيما لا تزال معضمية الشام المجاورة بانتظار سيناريو مشابه، في سياق تأمين العاصمة ومحيطها، من جهة الغوطة الغربية، باتجاه الجنوب إلى القنيطرة ودرعا؛ لذا، لم يكن غريبًا، خروج مظاهرات لعشرات الشيعة، مطالبين بطرد ما تبقى من السكان السُنة، خارج منطقة السيدة زينب، جنوب شرقي دمشق.
قلب دمشق ذاته، وصحن جامعها الأموي، لم يعودا غريبين عن المواكب الشيعية و”لطمياتها”، ولا عن خطط التملك الإيراني لعقارات سكنية وتجارية وسياحية مثل الفنادق، في مناطق مختلفة من العاصمة، سواء بالشراء المباشر، أو تحت يافطة “إعادة تنظيم بعض أحيائها”، كما في المنطقة الممتدة خلف مستشفى الرازي، على أوتوستراد المزة، بالقرب من مبنيي السفارة الإيرانية القديم والجديد. ما يُعطي مزيدًا من المصداقية للشائعات المنتشرة، بشأن “تجنيس” حوالي مليون شيعي من خليط لبناني، عراقي، أفغاني، باكستاني، إيراني.
ما حصل في داريا، يُعيد قراءة ما حدث قبلها في القصير وأحياء في مدينة حمص، وفي الزبداني وغيرها، حيث كان القاسم المشترك تقريبًا، هو تهجير الأهالي، وخصوصًا المقاتلين، باتجاه “إدلب” شمال سورية، بيد أن اتفاق هدنة كيري – لافروف الأخير يجعل من المشهد أكثر وضوحًا.
هذا الاتفاق، أو ما أُعلن من بنوده، تجعله “تقنيًا بحتًا” يُكرس السيطرة الحالية للقوى المتصارعة، والتي تعكس بدورها تقسيمًا عسكريًا قائمًا، على أن يتم “تطهيره” في مرحلة لاحقة قريبة، وبمعية الطائرات الأميركية والروسية، من القوى المتشددة، أولها جبهة فتح الشام، وتنظيم الدولة، وهو تكريس يُمهّد في حال نجاحه لرسم خارطة سورية المستقبلية، على طاولة التفاوض السياسي، وفي الصدارة منها “سورية المفيدة”. فيما يبدو أنه لا مانع على طريق تأمينها من أن تواصل طائرات بوتين ارتكاب مجازرها في إدلب “السوق”، بعد ساعات قليلة من مشاركة لافروف بإعلان اتفاق الهدنة، أو أن تستمر كذلك معارك جبال اللاذقية الملاصقة، حيث تتركز المصالح الروسية من قواعد عسكرية في حميميم وطرطوس، وخطوط غاز ونفط مستقبلية باتجاه أوروبا. بينما تتضح أكثر معالم منطقة النفوذ التركي في حلب ومحيطها، على حساب الانفصاليين الأكراد؛ لتنكفئ طموحات هؤلاء إلى شرق الفرات باحتضان أميركي، بعيدًا عن الحدود التركية، وعلى حساب “الأسد” في الحسكة، وربما في الرقة بعد انتزاعها من “داعش”.
“هكذا” يبدو السيناريو مرسومًا على الأرض، وكل ما يحتاجه هو الإخراج السياسي على الورق (دستورًا وفيدرالية)، غير أن المسألة أكثر تعقيدًا بكثير، ذلك أنها تتجاهل الأمن القومي للاعبين آخرين، أولهم السعودية، التي لا تملك أوراق الحسم، لكنها لا تزال تمسك بأوراق للتعطيل السياسي من خلال “الهيئة العليا للمفاوضات”، وببنادق للتحدي العسكري عبر أكثر من فصيل مقاتل أهمها (جيش الإسلام)، القابض على مشارف دمشق.
بالمقابل، هناك الشعب السوري، أو ما تبقى منه، ولا يزال على الرغم من تجاهل الجميع له، أكثر عددًا من براميل الأسد المتفجرة، ومن صواريخ بوتين العابرة للقارات، ومن المستوطنين الطائفيين الشيعة، ومن الشبيحة، كما أنهم أكثر نخوة من كيري ودي مستورا و”المعارضات” مجتمعة، ولعل المؤكد الوحيد أن الحرب التي لا تنتهي عند سورية موحدة، لا مكان فيها للأسد وزبانيته ومرتزقته، هي حرب مستمرة، ستلد حروبًا متنقلة عابرة للحدود، وإن غدًا لناظره قريب.