سورية الآن

هل حوصرت المعارضة المسلحة سياسيًا؟

حتى مساء يوم الإثنين لم تكن غالبية المعارضة المسلحة قد أعلنت موقفًا رسميًا تجاه الاتفاق الروسي الأميركي، حيث ظل انتظار هذا الموقف الشغل الشاغل للوسائل الإعلامية، التي حاولت التقاط المواقف من قبل بعض المتحدثين باسم الفصائل، إلا أن شيئًا لم يصدر عنها بشكل رسمي، سوى ما أعلنه أبو عمار العمر نائب القائد العام لحركة أحرار الشام عن رفضها للاتفاق، لا بل إن بعضها نفى وجود موافقة تاركًا الأمر للمشاورات التي تعقدها فيما بينها، والتي أثمرت عن تحفظات مشتركة أعلن عن بعضها في بيان لأحرار الشام أيضًا صدر مساء الأمس.

ترقب موقف الفصائل المسلحة لم يكن هاجس الوسائل الإعلامية فقط بل هو حال أصحابه الأميركين والروس، الذين ستبنى استراتيجيتهم العسكرية والميدانية بناء عليه، كما كانت الرغبة بمعرفة خيارات حملة السلاح هي ما سكن تفكير السوريين الذين سيتقرر مستقبل أيامهم بناءً على استحقاقات إعلان الهدنة ومجريات تنفيذه.

استمرار القصف بعد الإعلان عن الاتفاق ووقوع مجزرة مروعة في مدينة إدلب إثر قيام الطيران الروسي بقصف سوقها الشعبي، وكذلك تسجيل الانتهاكات للهدنة في عدة مناطق بعد موعد سريانها مساء البارحة، لم يُشعر السوريين بوجود بوادر مختلفة عن تلك التي رأوها عند الإعلان عن اتفاق الهدنة في بداية العام، لا بل إن إحساس الجميع ذهب إلى التشكيك بما جرى في جنيف، واعتباره حلقة جديدة من حلقات التآمر على الثورة السورية، خاصة وأن الإطار العام الذي غُلف به الاتفاق بني على إقرار هدنة بأي ثمن، دون الإشارة إلى طبيعة المسار السياسي الذي ينوي المتفقون إطلاقه، مع غياب أي تلميح عن مصير بشار الأسد ومجموعته. ولعل ما زاد في التلقي السيء لما جرى في جنيف كان هو تلك الخلطة العجائبية من الواجبات التي ألقيت على عاتق الفصائل المسلحة، والتي زاد في طنبورها نغم، الإعلان عن رسالة ثانية أرسلها مايكل راتني للمعارضة المسلحة، حملت في ثناياها تهديدات مباشرة بالاستهداف في حال لم تقم الأخيرة بالابتعاد عن جبهة (فتح الشام) وقامت بالتعاطي معها.

هكذا وضمن سياق يغلب عليه الغموض، كانت الحوافز التي يقدمها أصحاب الاتفاق للفصائل لا تتعدى نجاتها من التصنيف الدولي لقوائم المنظمات الإرهابية، إذ لا يوجد أي أفق سياسي واضح يجعل المقاتلين المنضوين تحت ألويتها يقيمون المعادلة بين الاستمرار بحمل السلاح، وبين عملية سياسية تقضي بنهاية حقبة نظام الأسد الذي تسبب بكل ما يحصل على الأرض.

لهذه الأسباب وغيرها تأخر رد الفصائل وربما سيتأخر أكثر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لن يكون هناك موقف واحد يجمعها كلها، فهي ليست مؤطرة في إطار سياسي يجمعها كلها، كما أن موقفها لابد سيبنى على مقاربة ستجريها مع الدول الإقليمية الداعمة لها، والتي لابد ستنتظر تبيانًا للاستراتيجية التي دفعت بالولايات المتحدة للموافقة على بنود اتفاق، يرى الجميع فيه انتصارًا للطرف الروسي، الذي استطاع تحييد القضايا الملحة في صيغته، وتأجيلها إلى الفترة القادمة، وربط طرحها بتقدم مسارات تنفيذه، ونجح أيضًا في صب كل فوهات الضغط على الفصائل المسلحة، دون الإشارة إلى واجبات الطرف المقابل، الذي جرت التعمية على تكوينه بالحديث عن أنه يتمثل بالحكومة السورية، رغم أن الجميع يعرف بأن جيش النظام لم يكن هو الفاعل على الأرض في كل المعارك، التي جرت في الفترة الماضية، فضعفه الواضح الذي يمنعه من الدخول في المعارك القاسية التي جرت في منطقة الكليات والراموسة في جنوب حلب، يوضح أن القوى الفاعلة في مقلبه كانت هي الميليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق و إيران وأفغانستان.

موافقة الفصائل على الاتفاق إن أُعلنت ستعني قبولها بتثبيت نقاط الاشتباك وفق الوضع الميداني الأخير، والتي تضع النظام وحلفائه في موقع المتحكم بالوضع الإنساني في مدينة حلب، وضمن هذا الحال لن يكون بالإمكان تغيير أي شيء على الأرض، طالما أن المطلوب هو تثبيت وقف إطلاق النار، وكذلك فإن الموافقة تعني الإقرار والتسليم بجعل جبهة (فتح الشام) هدفًا لعلميات القصف الجوي دون تقديم العون لها، ما سيعني في المحصلة خسارةً لقوة (جيش الفتح) التي شكلت طيلة الفترة السابقة رافعة لتقدم الفصائل في مواجهة محاولات النظام وميليشاته استعادة السيطرة على المناطق التي خرج منها بقوة السلاح، وبالتأكيد فإن كل القوى الفاعلة تدرك أن استفراد قوى التحالف الدولي وكذلك الطيران الروسي الذي يشكل عماد قوة حلفاء النظام بالجبهة، وتمكنه من تدمير قوتها على الأرض سيعني إمكانية تكرار الأمر مع فصائل أخرى تجد نفسها هذه الأيام في وضع سياسي صعب، فالرفض سيؤدي في النهاية إلى اعترافٍ علني بوجهة نظر وزارة الخارجية الروسية، حين كانت ترفض الحديث عن وجود فصائل معتدلة، وكذلك إلى تثبيت لدعاية النظام الذي وضع كل من حمل السلاح ضده في سلة الإرهاب، كما أن الموافقة ستقودها إلى التشرذم العميق بانتظار قيادتها جميعها إلى المحرقة.

هل سُدت جميع منافذ الخروج من حالة الحصار السياسي التي تشكلها الشراكة في المواقف الأميركية الروسية أمام الفصائل المسلحة؟ يمكن الإجابة بالنفي حتى اللحظة، إذ مازال موقف المعارضة السياسية غير واضح رغم بعض الإشارات الإيجابية التي صدرت عن بعض أعضاء الائتلاف، كما أعلنت الهيئة العليا للمفاوضات أنها لم تتلق نسخة مكتوبة من الاتفاق، حيث أشار المتحدث باسمها سالم المسلط، في تصريح لوكالة (فرانس برس) نقل مساء البارحة، إلى أن الهيئة تطالب بمعرفة الضمانات، وآلية التطبيق، وكذلك ماهية التصنيف الذي تم اعتماده بالنسبة للإرهاب، وما هو الرد على المخالفات.

وربما يمكن البناء على موقف ما تتخذه المعارضة حيال المستجدات الراهنة بعد إجراء مشاوراتها مع الفصائل المسلحة، ومع الأطراف الإقليمية التي لا تبدو سعيدة بهيمنة الرؤية الروسية على بنوده وتفاصيله. وكما يمكن المراهنة على مراجعة الفصائل للواقع الحالي والتي تمكنها من اتخاذ قرارات تحفظ لها قدراتها العسكرية، ولا تعرضها للوقوع في الفخ الذي نُصب لها، وهنا لابد من الالتفات إلى بعض القراءات التي جرى تداولها على شبكات التواصل الإجتماعي والتي طالبت جبهة (فتح الشام) بإعلان حل نفسها والاندماج مع الفصائل الأخرى، وقبل هذا كله يمكن العودة السريعة إلى استكمال مشاروات حدثت خلال الفترة الماضية كانت تهدف إلى دمج الفصائل الأساسية في جسد واحد، يعمل تحت علم الثورة وشعاراتها الأساسية.

ولعل أبرز المنافذ التي يجب على الفصائل المسلحة عدم إهمالها هو عودتها إلى قراءة الظروف التي رافقت تشكلها، والتي منحتها الشرعية بين جماهير الثورة، فقد بدأ الحراك المسلح تحت شعار حماية المتظاهرين والدفاع عن المدنيين في مواجهة الحل الأمني العسكري الذي باشره النظام منذ الأيام الأولى للثورة، لقد كان تعاضد الثائرين فيما بينهم إطارًا شرعيًا حمى من حمل السلاح منهم، ولكن الابتعاد عن أجندة الثورة، والعمل تحت الأطر الحزبية الضيقة، وكذلك سلسلة طويلة من الممارسات البعيدة عن الرؤية الوطنية للثورة، بالإضافة إلى الانضواء تحت إرادات الدول الإقليمية والدولية المتدخلة في الوضع السوري، كل ذلك خلخل الصيغة الأولى التي ولد من خلالها العمل المسلح ضد النظام. إن مراجعة كل ما سبق لابد سيؤدي إلى تبيان أي طريق ستنتهجه الفصائل الثورية المسلحة، وفي النهاية سيكون قرارها يتعدى مسؤوليتها عن الأرض التي تسيطر عليها فقط، ليشمل مصير هذه المرحلة من تاريخ الثورة..

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق