قضايا المجتمع

تعايش السوريين في طرطوس زمن الحرب

أوضاع المُهجَّرين في الساحل السوري لم تأخذ حقّها من البحث حتى الآن. وسوف نلقي نظرة عامة على حالة التعايش في محافظة طرطوس دون الغوص في الكثير من التفاصيل التي تتطلب دراساتٍ ميدانية ربما لم يحن الوقت لإجرائها، مع العلم أن عدد المُهجَّرين إلى هذه المحافظة يقارب المليون، ويعادل، على وجه التقريب، عدد السكان القاطنين فيها قبل عام 2011، فعلاوة على الذين عادوا من أبناء المحافظة في عامي 2011 و2012 من المناطق الساخنة، وصلت المحافظة أعداد كبيرة من البلدات والمدن السورية التي شهدت المزيد من القصف والمعارك وأصبحت شبه غير قابلة للعيش.

تُصنِّف إحدى الناشطات في مجال الإغاثة المُهجَّرين إلى محافظة طرطوس في ثلاث فئات:

الفئة الأولى؛ مجموعات صغيرة هاجرت في بداية الحراك والتجأت إلى أقاربها أو إلى البيئات الأقرب إليها اجتماعيًا. استُقبل هؤلاء من السكان وقُدِّمت لهم المساعدات، في غياب أي مساعدات رسمية.

الفئة الثانية؛ المُهجَّرون الميسورون الذين استشعروا الخطر، وانتقلوا بمعظم ثرواتهم؛ ليستأجروا البيوت والمحلات التجارية، ويمارسوا حياتهم الطبيعية بفضل استقلالهم المادي، ولم تكن ثمة مشكلة في تعايش هؤلاء مع أبناء المدينة، لا بل أنّ تعايشهم أخذ طابع المنفعة المتبادلة، والتحق أبناؤهم بالمدارس الرسمية والمعاهد والجامعات والخدمة العسكرية، كما انخرط هؤلاء في أنشطة السوق المحلية، بما يُعرف عن أهل مدينة حلب خاصة من القدرة على التكيُّف وحبّ العمل، فنالت أعمالهم ومنتجاتهم الشهرة ونجحوا في منافسة الفعاليات المحلية بدرجة كبيرة.

الفئة الثالثة؛ المُهجَّرون الذين هربوا من الموت منذ أوائل عام 2012، وهم الأكثر عددًا، وكانوا يعانون من مشكلات نفسية شديدة، نتيجة ما شهدوه من أهوال، وجاء بعضهم من محافظة حمص، وأغلبهم من النساء والأطفال، ثمّ وصلت أعداد كبيرة من حلب وريفها بعد فترة من سيطرة المعارضة على حلب الشرقية صيف 2012، وتمّ إسكان الفقراء منهم في مراكز الإيواء كالمدارس والصالات الرياضية والمؤسسات الحكومية الشاغرة، وانتشروا في أنحاء المحافظة كافة، مع كثافة خاصة في المدينة والقرى والبلدات المحيطة بها.

بالتوازي مع وصول الدفعات الأولى من المُهجَّرين، قام ناشطون بجهد استثنائي لمساعدة المُهجَّرين، ومازالوا، ابتداءً بالكلمة الطيبة، وليس انتهاءً بتقديم التبرعات العينية، أو توزيع الإعانات للمحتاجين، علاوة على بعض المساعدات الدولية التي تصل إليهم، لكن، وعلى الرغم من الجهد الذي بذله ناشطون؛ لتأمين التحاق الأطفال بمدارسهم، وبالدورات التي تقيمها الأمم المتحدة من أجل تعويض التلاميذ عمّا فاتهم، فإنّ هذه المشكلة ما زالت قائمةً في بعض المخيمات وأماكن اللجوء حول مدينة طرطوس، حيث دفعت الحاجة كثيرًا من الأطفال للعمل في مختلف المهن، فضلًا عن حالات التشرُّد الموصوفة.

بدوري، تابعت أحوال المُهجَّرين في مدينة الدريكيش، مباشرةً أو بصورة غير مباشرة، وسمعت عن طيب تعامل سكان محليين معهم، والذين قدّموا لهم المساعدات من مؤونتهم، وسكن فقراء المُهجَّرين في معمل الحرير والثانوية التجارية، ووجد معظم الرجال أعمالًا تلائم مهاراتهم ومهنهم، كما جهّز آخرون ورشهم بما تيسَّر، فساهم ذلك في إعادة الحياة تدريجيًا إلى السوق المحليّة، ولم يكن ذلك غريبًا، فقد تعامل السوريون بهذه الطريقة مع جميع النازحين إلى ديارهم على امتداد تاريخهم.

بدأ أبو محمد العمل في صناعة المنظفات في قريتي القريبة من الدريكيش بمساعدة ابنتيه، إحداهما جامعية، ارتبك قليلًا حين قابلته لأول مرة، فسارعت إلى التعريف بنفسي وأعطيته رقم هاتفي، وبعد حوالى السنة، جلسنا نتحدث بحضور عدة أشخاص، وقد بدا الرجل مرتاحًا كما بين أهله، وفي هذه الأثناء، توسَّعت الورشة لتُنتِج العديد من الأصناف، والتحق بها بعض العمال المحليين، الذين تعلّموا منه سرّ هذه المهنة.

تدريجيًا، تعزَّزت علاقات المصالح على اختلافها، فالحاجة ماسة لليد العاملة كتعويضٍ عن الشباب الذين يخدمون في مختلف أنشطة النظام العسكرية، أو الذين قُتلوا أو جرحوا في الحرب، وبمرور الوقت، أصبح التعايش والاختلاط حقيقة، كما كان دومًا في سورية، وتكيّف المُهجَّرون -إلى حدّ ما- مع الأجواء الاجتماعية الجديدة. وبرأي أحد الناشطين المنخرطين في أعمال الإغاثة فإنّ “عملية التعايش تسير ببطء وثبات، وسيفعل الزمن فعله الإيجابي بهذا الصدد.

لم تُسجَّل أي حوادث تذكر في تقبُّل هؤلاء المُهجَّرين، على الرغم من الازدحام الخانق في مختلف الأماكن، وبقيت الحالات التي تمّت فيها مضايقة هؤلاء محدودة، وأقل مما كان يحدث في الحالات العادية في أي اجتماعٍ بشري، ومع ذلك، كان ثمة مخاوف من إيقاظ فتنةٍ ما، وكانت تفجيرات طرطوس الإرهابية في 23 أيار/ مايو 2016، الحدث الأبرز الذي أخرج تلك المخاوف إلى العلن، حيث قام على أثرها بعض (الشبيحة) المسلحين بالهجوم على أحد مراكز الإيواء جنوب طرطوس، وأحرقوا عددًا من الخيم، واعتدوا وجرحوا عدة أشخاص، وسادت حالة من الرعب بين صفوف المُهجّرين.

جاءت ردّة الفعل الشعبية رافضة لهذا الفعل، حتى أن بعض الناشطين تناوبوا طوال الليل في حراسة المخيم لحماية قاطنيه؛ ما يوحي بأن حالة التعايش قد تعزَّزت إلى حدٍّ بعيد، ولم تفعل تلك الأصوات النّشاز إلا تأكيدها، وهكذا صارت بعض المناطق الساحلية مكانًا مقبولًا للعيش.

تتغير الحياة بفعل فداحة الخسائر وعمق المأساة والمصاعب المعيشية التي عمَّت أنحاء سورية، بما في ذلك اتساع درجة التعبير عن الرأي على المستوى الشعبي، حيث دفعت الصدمات كثيرين إلى إعادة التفكير بمسلّماتهم السابقة، والوصول إلى حقيقة أن لا رجوع إلى الوراء، وبالتالي، انتظار حلّ سياسي بات رهنًا باتفاق الأطراف الخارجية المؤثِّرة في الحدث السوري.

لن تكون التبدلات الحاصلة في المجتمع الساحلي عكوسةً تمامًا؛ حتى لو توقَّفت الحرب، فقد تأسّست شبكة جديدة من المصالح، ما يُرجّح استقرار نسبة لا بأس بها من المُهجَّرين، علاوة على الأجواء الاجتماعية المتحرّرة التي طالما اجتذبت بعض السوريين إليها.

ليست الأمور ورديةً بالطبع، ولا شيء أصعب من أن يترك المرء أرضه وبيته طلبًا للأمان، بحدّه الأدنى البيولوجي، لكنّ تجربة التعايش هذه في زمن الحرب، في الوقت الذي ترتفع الأصوات المشكّكة بإمكانية حصولها، تستحق المتابعة والدراسة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق