استخدم الكاتب السوري “قمر الزمان علوش” صفحته على الفيس بوك؛ لينشر ما وصفه برواية العلويين، وفي توضيحاته وشروحاته عن أهمية “رواية العلويين”، توقف مع أدونيس؛ ليبحث عن “أحجية” غياب المكان عن شعره، فاكتشف أن غياب الصلة بين أدونيس، وبين الأمكنة الساحرة للمزارات العلوية، تفسر موت “المكان” في نصوص الشاعر “العالمي”، وسرد على القراء حكايته مع أدونيس والمزارات، فكتب:
“قبل سنوات كنت أعد فيلمًا وثائقيًا عن حياة الشاعر والمفكر أدونيس. قلت له: سأصورك داخل المزار مع مبخرة وقنديل ضوؤه شبه أشهب. نظر إلي وقال: وهل هذا ضروري؟ قلت: وهل يحرجك الامر؟ قال: لا. لكنك ان أدخلتني المزار فستكون هذه هي المرة الاولى في حياتي التي أدخل فيها مزارًا.
فوجئت بهذه الحقيقة. لأنني قبلها لم أكن اتخيل قط ان علويًا واحدًا ولد في تلك القرى ولم يقم بزيارة واحدة إلى أحد تلك المزارات. فتلك التجارب الروحية تخصص لها الطقوس الدينية لنكون: نحن. لنكون: أقوى.
لم أفرض على أدونيس التصوير داخل المزار. لكنني بالمقابل اكتشفت التفسير الموضوعي لنقطة الضعف الوحيدة في شعر هذا الشاعر الذي استوطن العالمية، وهي غياب المكان عن أشعاره. هذا الغياب المحسوس يشعرك أحيانًا بشعره و كأنه أمام عربة امبراطورية فخمة كثيرة الزخارف، ولكنها تسير في فراغ”.
السياق الذي أورد فيه الكاتب ملاحظته على غياب المكان عن شعر أدونيس، هو ما استدعى التوقف إزاء هذه الملاحظة؛ فلو كانت اندرجت في مادة نقد أدبي، أو دراسة تحليلية، لكانت ثمة زاوية نظر ننظر منها إلى تلك الملاحظة، لكنها اندرجت ضمن سرد استحضر فيه الكاتب تراث العلويين، وغيبتهم وحضورهم ومخاوفهم على مستقبل أطفالهم؛ فكانت وقفته عند بهاء المزارات وعظمة مكانتها في حياتهم الروحية وثقافتهم، وعمقها في وجدانهم الإنساني.
ولا يمكن تجريد زمن النص المذكور عن الزمن السياسي الذي تمر به سورية، وما يجري فيها من مواجهات دموية، لعب النظام فيها دور المؤسس بامتياز ووضوح، ودون نكران، وتحت شعار “حماية الأقليات”، بنى استقطاباته الخطِرة التي تهدف إلى تمزيق النسيج السوري، ومن بين تلك “الأقليات”، كان يدور الكلام أكثر ما يدور عن الخطر الذي يتهدد “العلويين”، وإرهابهم بأن سقوط النظام سيدمرهم إلى حد الإبادة!
هكذا يكون قمر الزمان ناطقًا ثقافيًا، يؤسس ليس “للعلوية السياسية” التي شن هجومه على من استخدمها في خطابه، بل ولتكون نصوصه تأسيسًا واعيًا، أو لا شعوريًا لعلوية ثقافية “وجودية”.
ليس صحيحًا -على الإطلاق- أن المكان غائب عن أشعار أدونيس، ولا عن مداخلاته الثقافية، وليس بالضرورة أن يكون مفهوم المكان في الشعر، محجوزًا لمسقط رأس الشاعر، ولا للمدينة التي ينتمي إليها، ولا البلد أيضًا، طالما ان الكلام يتصل بفن الشعر، وتظاهرة المكان/ الأمكنة فيه.
في ديوانه الصادر 2009 “فضاء لغبار الطلع”، كان أكثر من مكان حاضرًا في الديوان، وإن لم يكن من وحي “مزارات” الطائفة؛ ولأن أدونيس شاعر فكرة وفلسفة، أكثر منه شاعر روح ووجدان، لم يحضر المكان في شعره كما هو عند درويش، أو السياب وسواهما؛ فكان الخليج بعمرانه المدهش “دبي”، والصين في إيحاء الحبر والكتابة، راحت “الغيوم تمطر حبرًا صينيًا”. والتقط “جذور السوسن” في قصيدة عن كردستان العراق.
كما لم تغب سورية، بجغرافيتها الواسعة، وبعض أمكنتها، عن أشعاره، ولدمشق كان كثيرًا، شعرًا ونثرًا وثقافة؛ ففي ديوانه “صقر قريش”، وفي نثره الشاعري الثقافي “مهيار الدمشقي”، وإن كانت دمشق ملتبسة في شعره، كما وصفه الناقد السوري محمد علي الأتاسي.
“وا فراتاه، كن لي جسرا، كن لي قناع”
أسمع صوت الفرات:
قريش..
لؤلؤة تشع من دمشق
يخبئها الصندل واللبان.
ياحب لا … عفوك يا دمشق، لولاك، لم أهبط إلى الأغوار، لم أهدم الأسوار، لم أعرف النار التي تنادي، تضج في تاريخنا، تضيء/ سفينة الكون الذي يجيء/ عفوك يا دمشق/ أيتها الخاطئة القديسة الخطايا”.
وبإمكان من يرغب أن يرى المكان، فكرةً ومخيلة، موجودًا وحاضرًا في أشعار أدونيس، بالضد مما ذهب اليه قمر الزمان؛ فمن أين انبثقت عنده مقولة “موت المكان” في ما أنتجه الشاعر؟
بقراءة سريعة لنصوص قمر الزمان، التي نشرها على صفحة الفيسبوك، بعد أن أخبرنا بأنه ماعاد ينشر في الصحافة كلها؛ لأنها مغرضة ومأجورة، نستنتج أن عقدة المكان التي “اكتشفها” في شعر أدونيس، لا تنطلق من حقيقة إنتاجه الشعري، بل من تهويمات في ذهن الكاتب “علوش”، تقوم على خلفية “روايته عن العلويين”، فيصبح المزار العلوي مكانًا متفردًا ووحيدًا، يغذي مخيلة الشاعر ويلهم نصوصه. وكان للملاحظة وجاهة ومقبولية، لو انتقد علوش محدودية، أو غياب، المكان السوري، البلد، كل مدنه أو بعضها على الأقل، عن دواوين أدونيس ومؤلفاته. أما أن يعدّ المزار هو المكان الحصري الذي إن غاب عنه الشاعر، ولم يقم بزيارته ولا مرة واحدة في حياته، موتًا للمكان في قصائد الشاعر؛ فهو يشي بتظاهرة منغلقة على الجغرافيا والبلاد، وتعظيم لروحانيات الأماكن المقدسة عند الطائفة العلوية!
هل سيملأ أدونيس الفراغ الذي اكتشفه الكاتب، لتمضي عربته الامبراطورية إلى طريق المجد، وعظمة الإبداع؟
أعتقد أن الملاحظة ستغري أدونيس، لأنه ليس بمنأى عن الثقافة التي يقدمها علوش وسواه من مثقفي “الطائفة”، خلف فزاعة إبادة الطائفة، التي لم نسمع عنها إلا عندما تعرض النظام للترنح بفعل ثورة الحرية في سورية، وهنا نقف عند تشويه الرواية السورية برمتها، على أيدي مثقفين كان المنطق يفترض أن يؤسسوا الرواية على الحقائق، لا على المخاوف والأوهام.