لطالما وُضع العرفان في مرتبة أخيرة بين نظم المعرفة الإسلامية، بل لقد ذهب الأمر ببعضهم إلى عدم أخذه في الحسبان مطلقًا.
ونحسب أن تمجيد العقل المأخوذ عن الحداثة الغربية، في تجلياتها الأولى، كان أهم الدوافع التي جعلت المشتغلين في نقد التراث يضعون البرهان، وهو نظام الفلاسفة، في موقع الصدارة، والبيان، وهو نظام المعرفة الخاص بالمشتغلين بالأصول، في المرتبة الثانية، والعرفان، وهو عقل المتصوفة، في آخر الترتيب.
لا مشكلة في المنطقة الوسطى التي يشغلها البيان؛ فالنصّ الذي يمثّل مرجعية علماء أصول الدين، وأصول الفقه، والباحثين في البلاغة؛ لإثبات إعجاز القرآن، جدير بأن يكون واسطة العقد بين النظامين، وليس في هذا انتقاص منه، أو حط ّمن منزلته.
ولكن البرهان الذي يدّعي أنصاره أنه السبيل الأجدى لإثبات الغيبيات، فضلًا عن غيرها، لا يجدر أن يحتل موقع الصدارة؛ لأن الدعاوى الدينية المستندة إلى البرهان العقلي، لا تصمد أمام دعاوى التفنيد التي تعدّ القضية غير القابلة للتفنيد قضية ليست ذات معنى.
وقد ضرب “ويسدوم” مثلًا في قصة متخيلة، هي قصة حارس الحديقة:
عاد شخصان إلى حديقتهما المهملة منذ زمن طويل، ووجدا بين النباتات القديمة أعشابًا نامية بشكل ملفت، فقال أحدهما للآخر: لا بد أن الحارس كان هنا، واعتنى بهذه النباتات. وبعد سؤال الجيران، قال الجيران: إنهم لم يروا أحداً دخل الحديقة، فقال الأول للثاني: لا بد أنه عمل بينما كان الجيران نائمين؛ فقال الثاني: لو كان ذلك صحيحًا لسمعه أحدهم.
فقال الأول: انظر إلى الطريقة التي رتبت بها هذه الأعشاب، توجد غاية وإحساس بالجمال، أعتقد أنه يوجد شخص اعتنى بها، وهو غير مرئي بالعين المجردة، أعتقد أننا إذا بحثنا أكثر سنجد تأكيدًا أكبر على ذلك.
فحصا الحديقة بحرص أكبر، وكانا يصلان أحيانًا إلى أشياء جديدة، تؤكد وجود الحارس، وأحيانًا أخرى يصلان إلى نتيجة أخرى تؤكد عكس ذلك، إلى درجة أنهما ظنا -في بعض الأحيان- أن شخصًا خبيثًا مخرّبًا كان يعمل في الحديقة.
وبعد أن انتهيا من البحث، قال الأول: لا أزال أعتقد أن الحارس كان يأتي، بينما قال الآخر: أنا لا أعتقد.
يناقش وسدوم أن الاعتقاد الأولي بوجود حارس غير ملاحظ، كان فرضًا تجريبيًا، ولكن مع تقدم التجربة بات واضحًا أنه لم يعد هناك واقع قابل للمراقبة، عن حارس يختلف حوله المعتقد بوجوده، وغير المعتقد بذلك.
خلافهما الوحيد كان حول وجود حارس غير مرئي، وغير مسموع، ولم تعكس كلماتهما المختلفة الخلاف حول ما وجداه في الحديقة، ولا الخلاف حول ما يمكن أن يجداه لو فحصا أكثر، ولا الخلاف حول ما ترك في الحديقة بدون عناية.
لم تكن غاية وسدوم إقناع قرائه بوجود الله أو بعدمه، ولكنه يناقش أنه فيما خصّ بعض الأسئلة؛ إذ لا نستطيع أن نصدر حكمًا يفصل بين أجوبة محورية عبر تحرّ تجريبي، ولكن يمكن أن يكون من الملائم البحث عن جواب أكثر معقولية.
ويناقش وسدوم أن سؤال المرء عن وجود الله يصاحب شعوراً تجاه العالم.
خلاف الصديقين حول وجود حارس غير مرئي، يترافق مع خلاف حول شعور كل منهما تجاه الحديقة.
إن تكييف “فلو” لقصة وسدوم كانت عبر تحرّ تجريبي، يقوم به الصديقان باستخدام سياج كهربائي، وكلاب بوليسية، لكنهما لم يعثرا على علامة مباشرة تدل على الحارس.
لكنّ المؤمن لا زال يقول: يوجد حارس غير مرئي، وغير محسوس، لا يصدر صوتًا، وليس له منظر، إنه حارس يأتي إلى الحديقة؛ لكي يعتني بها؛ لأنه يحبها.
أخيرًا يصيب الشاك اليأس؛ فيقول: ماذا تبقى من تأكيدك الأصلي؟
كيف يختلف حارسك غير المرئي، وغير المحسوس عن الحارس المتخيّل، أو عن عدم وجود حارس على الإطلاق؟
ومنه، يستنتج “فلو” أن الاعتقاد المفترض بوجود حارس غير مرئي، وغير محسوس، ليس تأكيدًا على الاطلاق؛ لأن التأكيد الذي لا يمكن تفنيده لا يؤكد شيئًا، وهو بلا معنى، والعبارة عن الله تشبه عبارات المعتقد بوجود حارس الحديقة غير المرئي، ليخلص فلو إلى نتيجة أن المؤمنين، والحال هذه، يفشلون في إنجاز المتطلبات الوصفية للغة ذات المعنى.
بمعنى، أن المصطلح الذي يشير إلى المطلق لا يستند إلى أرضية تجريبية.
ولكن ما يفند هذا الادعاء أن التجربة الإنسانية أوسع من التجربة الإمبريقية، فالكائنات البشرية لا تدرك ذاتها من خلال إدراك حسي فحسب، وإنما من خلال إدراك لا حسي أيضًا، والدعاوى الثيولوجية تستند إلى تجارب لا حسية.
والأرضية التي تجعل للمصطلح الذي يشير إلى المطلق مرجعية، هي عدم قدرة الناس على تجنب عدّ حياتهم ذات معنى، وعدم قدرتهم على تجنب امتلاك ثقة بالقيمة النهائية للوجود.
والإلهيات الإسلامية (التي تنتمي إلى البيان)، والتي حاولت محاكاة الأساليب البرهانية تعاني-كما يقول طه عبد الرحمن- من معضلات عدة:
أولاها أنها رمزية لا وجودية؛ بمعنى أن أدلتها تستخدم اللغة التي لا تشخّص الوجود، ولا تستحضره؛ فاللغة بنيات رمزية، تعبر عن تصورات، وهي مستقلة عن مستوى الوجود.
وثانيها أنها تشبيهية لا تنزيهية، فصفات الموجود المطلق لا يمكن أن تُدرك من دون تشبيهها بحالات محدودة، هي أنموذجات مثلى للحالات العينية المدركة.
وتأويل الصفات لا يحل المشكلة؛ لأنه لا يفعل أكثر من صرف التشبيه إلى معنى آخر غير المعنى الظاهر، والتوقف عند الظاهر قد يفضي إلى تعطيل الصفات، والتشبيه والتعطيل لا يليقان بالذات الإلهية.
وعندما أراد ابن تيمية أن يستر “عورة اللغة” التي تجبر مستخدمها على التشبيه، قال بيد لله ليست كالأيدي، وهو يذلك، لم يفعل أكثر من الهروب من تأويل إلى تأويل؛ فاليد قد وضعت في أصل اللغة للجارحة، والقول إنها ليست كالأيدي هروب من تأويلها بمعلوم، كما فعل الأشاعرة (أصحاب الحل الأكثر توفيقًا كما نزعم) الذين أولوها بالقدرة إلى تأويل بمجهول.
وثالث المعضلات أن مقدماتها ظنية، لا يقينية، فالاستدلال التالي:
إما أن الكون غير موجود، أو أن الله موجود
ولكن الكون موجود
إذن الله موجود.
مقدمته الكبرى ظنية، لا يقينية.
صحيح أن استدلالات علم الإلهيات كفيلة بتحصيل ظن راجح، ولكنها تحتاج شيئًا آخر يحيلها إلى يقين.
كما أن الشعور تجاه العالم الذي يستبطنه المؤمن في قصة حارس الحديقة ضروري لتأكيد اعتقاده؛ لأنه إذا نقلناه إلى مستوى الوجود الكلي لا يستطيع تجنب الثقة بالقيمة النهائية للوجود، ولا تجنب إحساسه بقيمة وجوده، وهما عدم قابلية للتجنب، يضفيهما الوجدان، والإدراك اللاحسّي الذي يمنحه العرفان، يحتاج محصّل الظن الراجح من استدلالات علم الإلهيات الإسلامي إلى تجربة حية، تحيل ظنه الراجح هذا إلى علاقة وجدانية حية مع المطلق.
هذه التجربة الحية يمنحها أيضًا العرفان، الذي يضيف إلى الظن إحساسًا نابضًا بالحب للصانع ومخلوقاته، وهو إحساس نابع من تجربة معايشة المطلق، والإحساس الدائم بمراقبته.
يمكن تأصيل العرفان في القرآن الكريم؛ لأن بعض آياته تشير إلى قيمة نهائية للوجود، وإلى إحساس بمعنى الوجود في الحياة، وهذا الإحساس وتلك القيمة لا يكرسهما إلا العرفان.
} أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون {“المؤمنون-115”.
} وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون { “الدخان:38-39”.