ازداد -في الآونة الأخيرة- أولئك الذين يرفعون شعارات الحقوق والمساواة والحرية والعدالة، داعين إلى “العلمانية” سبيلًا؛ للخلاص من عاهات المجتمع المستعصية، وأمراضه المزمنة التي ما زالت تتفاقم في ظلّ غياب البوصلة التي تُوجِّهه نحو أيديولوجية، تحميه من عواصف التغيرات التي تُحيط بمنطقتنا العربية.
لقد سعى هؤلاء إلى إظهار “العلمانية” ترياقًا مُنقذًا لهذه المجتمعات مما تُعانيه؛ لكنهم -في الحقيقة- يسعون إلى التواري خلف هذا المصطلح؛ ليُسوّقوا أنفسهم في المحافل الدولية والاجتماعات الأممية، وليظهروا بمظهر المدنية المتقدمة، التي تحثّ الخُطا نحو المجد والعلياء.
من أغرب ما يجري في مجتمعاتنا العربية التي عانت منذ مئة عام ونيّف، هم هؤلاء الذين تسلّقوا رقاب الناس، وعلى حساب ثقافاتهم ومعتقداتهم؛ ليصلوا إلى سدّة القرار، جاعلين من العلمانية سُلّمًا لهم؛ للحصول على البُغية، والوصول إلى الأمنية.
هؤلاء المتسلقون، من السياسيين والنّخب العربية، الذين حكموا هذه البلاد باسم العلمانية عقودًا عديدة، قد قدّموا للعالم ولشعوبهم صورة شوهاء عن العلمانية؛ حتى كفر بها كثيرٌ من أفراد ونُخب هذه المجتمعات؛ بل وحاولوا التخلّص من هذه الأيديولوجيا النفعية، التي اتّبعتها هذه النُّخب التي قامت أساسًا على طرح العلمانية شعارًا زائفًا أجوف، لا يملك أي مضمون.
إنّ “مرتزقة” العلمانية في عالمنا العربي، هم أولئك الطغمة الفاسدة التي سيطرت على مقدّرات الأمة، ونهبت ثروات الدول، وأهلكت الحرث والنسل، فقتلت باسم العلمانية، ونهبت تحت شعارها، وشرّدت لأجلها، وهتكت كل حدّ، واستحلّت كل محرّم كُرمى المحافظة عليها بحسب زعمهم؛ غير أننا لا نجد هؤلاء المرتزقة السياسيين، المتلبسين بلبوس المدنية، يبنون أو يزرعون أو يصنعون تحت شعار العلمانية؛ بل كل مجد، إنّما هو نتيجة لجهدهم، وكل بناء فبفضل أفكارهم، وكل تقدّم فمنسوب إلى سياساتهم “الحكيمة”؛ حتى بات هؤلاء الفراعنة لا يسمحون لشعوبهم أن ترى إلا ما يرون، ولا أن تُفكّر أو أن تطمح إلا ضمن سقف موضوع لها، يُحرَّم عليها أن تتجاوزهُ؛ حتى في أحلامها ورؤاها المناميّة، فأصبح لا أمل لهذه المجتمعات المستعمرة من أبنائها إلا رضا هذه الطبقة التي ما فتئت تزداد تسلّطًا واستعبادًا.
فإذا كانت الثورة العلمانية قد نشأت في أوروبا الغربية؛ نتيجة تسلّط الكنيسة ورجالاتها وكهنتها وقساوستها على السّلطتين الروحية والزمانية؛ حيث حاول هؤلاء الطغاة “الملتحُون” أن يَقسِموا الجنّة، ويمنحوا صكوك الغفران لمن ينتمي إلى ما يميلون إليه، من فكر كهنوتي مُغلَق، معاد لكل جديد، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعلميًا، إذا كان الأمر كذلك، فنحن في عالمنا العربي بحاجة إلى ألف ثورة؛ لإعادة العلمانية التي اغتصبها هؤلاء الحُكّام إلى جوهرها، ثورات تمسح عن هذا المصطلح دنس الممارسات التي مُورست من هؤلاء المرتزقة: السياسيين والنُّخب النفعية.
وإذا كان الفكرُ الثيوقراطي، بما يحمله من ربط للدّين بكل مناحي الدولة، يُشكّل خطرًا على كيانات المجتمعات كما يُعتقد، فنحن اليوم نجزم بأن هؤلاء “المتسلّقة” بما يحملونه من شعارات جوفاء، ومناهج تثبيطية لكل حركة أفقية مجتمعية، هم الأكثر خطرًا والأعظم فسادًا وإفسادًا؛ إذ إن أصحاب الأيديولوجيا الثيوقراطية يمتلكون نوعًا من المبادئ التي ألزموا فيها أنفسهم، سواءٌ اتّفقنا معهم أم اختلفنا، أمّا هذه الطغمة المدّعية، فهي لا تمتلك أي برنامج واضح أو رؤية جليّة؛ سوى السعي -تحت عنوان العلمانية- إلى كم أفواه المعارضين، ونهب الموارد، والاستيلاء على الثروات، مع تمكين مكانتهم، كقادة أو أشباه “آلهة”، وربط المجتمعات ووحدتها وتماسكها واستقرارها بوجودهم، بما يمتلكون من “كاريزما” القيادة؛ لكونهم القادة الملهَمين المسدَّدين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم.
لقد ضاعت ملامح العلمانية في غيابة التشويه المتعمّد الذي اتّبعته الأنظمة العربية الفاسدة، التي تلبس مُسوح المدنية والعلمانية على قلوب الذئاب، فلم يبق من العلمانية إلا ذلك الغطاء أو الاسم الذي يستخدمه الطّغاة العرب؛ لإبعاد الحركات الراديكالية والثيوقراطية عن مسرح العمل السياسي، متمسّكين بالعلمانية ظاهريًا لأجل هذه الغاية.
ونحن إذ نُسلّم أنّ من مقتضيات العلمانية فصل الدين عن الدولة، الأمر الذي يلزم عنه إبعاد كل من يتبنّى الثيوقراطية التي تُحاول بناء الدولة على أساس العقيدة والأيديولوجيا الدينية، إلا أنّ العلمانية لا ينبغي أن تكون سوطًا مُسلّطًا على رقاب أصحاب هذا الفكر أو غيره؛ بل لا بدّ من إيجاد صيغة لعقد اجتماعي، يجمع كل المكونات -على اختلافها- تحت مظلّة الدولة والقانون.
وعلى الرغم من تبنّي فكرة العلمانية من الحكّام في بلادنا العربية، إلا أنّنا نلحظ فصامًا فكريًا بين طروحاتهم السياسية وتطبيقهم لهذه الطروحات؛ فهؤلاء الذين يدّعون العلمانية، من هؤلاء “الجلاوزة”، ويبنون على ذلك محاربتهم الأفكار الأخرى، تحت دعوى التّطرف، هم أنفسهم الذين يتقرّبون؛ بل ويتحالفون مع أنظمة ودول تتفاخر بنظامها القائم على أساس العقيدة الدينية المتطرفة، حقيقة وواقعًا مُعاشًا، وليس نظام الأسدين -الأب وابنه- عنّا ببعيد، ففي الحرب العراقية الإيرانية ساند نظام الأسد الأب دولة الملالي الإيرانية، ضد أبناء عقيدته الحزبية البعثية في العراق، وفي لبنان تحالف الأسد الأب -ومن بعده ولده الوريث- مع حزب الله ذي الاتجاه الثيوقراطي المتشدد، الذي يُعلن ويُجاهر بولائه لدولة العمائم السوداء في طهران، أما في الداخل -وتحت شعار المحافظة على النظام العلماني والوحدة الوطنية- ضرب نظام الأسدين أصحاب الفكر الدّيني المعتدل قبل المتطرف، وزجّهم في السجون، وملأ بهم المعتقلات؛ بل واجتث عائلاتهم، في “هولوكوست” مخيف، لا يزال النظام العالمي يغضّ الطرف عنه إلى اليوم.
هذا الفصام الذي تُعانيه الأنظمة العربية القمعية في ممارسة العلمانية، لا يمكن لنا أن نُفسّره إلا بسياسة المصالح النفعية التي تتّبعها هذه الأنظمة، وتبني عليها علاقاتها وسياساتها ومناهجها على كافة الصُعد.
هذه الأنظمة الديكتاتورية الشّمولية، لا مشكلة عندها أن تتحالف مع الشيطان؛ لتحقيق مصالحها، لا مشكلة عندها أن تُبيد نصف سكان دولها؛ لتحكم النصف الآخر، لا مشكلة عندها أن تتحالف مع الأعداء التقليديين لمجتمعاتها؛ للمحافظة على كراسيهم وعروشهم، إن وافق ذلك ما يُعلنونه من شعارات جوفاء فبها ونعمت، وإن خالفه فلا مشكلة باللعب تحت الطاولة؛ لتحقيق المرامي والأهداف التي تقوم -أساسًا- على تكريس كل شيء لخدمتهم وخدمة حاشيتهم وزبانيتهم.
نحن اليوم –وأكثر من أي يوم– بحاجة إلى ثورة عارمة، لا لاقتلاع الدّكتاتوريات المهيمنة على مُقدّرات أمتنا فحسب؛ بل لانتزاع العلمانية من سجون ومعتقلات مفاهيمهم الضّحلة، التي حاولوا أن يُقوقعوها فيها، مدّعين أنها نوع من العلمانية التي تتوافق مع شعوب المنطقة، ولا تخالف عاداتهم وتقاليدهم، ولا تصطدم مع معتقداتهم المقدسة، وأن هذه العلمانية المشوهة المطبقة في بلادنا العربية، ما هي إلا نتيجة طبيعية للسيرورة التاريخية، وأنها التطبيق الأمثل الذي يفرضه الواقع الذي تعيشه الأمّة.
إن الفكر العلماني -اليوم- يئنّ من هذا التشويه المتعمّد الذي مُورس عليه منذ عقود خلت، وما انفضاض كثير من شعوب المنطقة عن هذا الفكر، وانحيازهم إلى الجانب الآخر، إلا ردة فعل على هذا الثوب الرثّ الذي حاولت -وتُحاول- الطّغم العربية الحاكمة، في بعض الأقطار العربية، إلباسه إياه، ومهما حاول هؤلاء أن يُجمّلوه ويزيّنوه، فإن فعلهم الشّائن بتحريف العلمانية، سيبقى وصمة عار في جبينهم المتهالك.
إن ثورات الربيع العربي اليوم، ليست ضد الأنظمة العلمانية، كما تحاول هذه الأنظمة الفاجرة أن تُظهره وتدّعيه؛ لتسويق بقائها، وتثبيت أركانها، وتمتين مواقعها، وإنما هي ثورات لإعادة العلمانية إلى مسارها الصحيح، بعد أن فقدت البوصلة، بفعل بعض النخب المنتفعة من بقاء هذه الطغمة الحاكمة؛ لذلك كان على العالم المتحضّر أن يقف -في خندق واحد- مع هؤلاء الذين يبذلون الغالي والنفيس لإنقاذ العلمانية من جلاديها، وإطلاقها من قيودها التي ترسف فيها، فمقياس تحضّر العالم اليوم، وصدقه في ممارسة العلمانية واقعًا، هو بمقدار وقفته ضدّ من شوّه هذا الفكر، وجعله مُرتبطًا بانتهاكات إنسانية يندى له جبين أحرار العالم أجمع.
إن العلمانية التي فُرضت على منطقتنا العربية، بهذا الشكل المرعب، ما هي إلا علمانية مُستذئبة، تفترس كل مُنتقديها، أو من يحاول تعديل مسارها، وتصحيح منهجها، وردّها إلى جادة الصواب، “فهل من مُنقذ للعلمانية من هؤلاء الذئاب؟؟؟”، سؤال في رسم العالم المتحضر الذي يقف متفرجًا صامتًا على الرغم من كل ما يجري من انتهاكات ومجازر إلى اليوم.