أدب وفنون

فرع الموت 201

منذ وقت طويل لم أرَ أحلامًا ملونة. باتت جميع أحلامي بالأبيض والأسود؛ وفي أفضل الأحوال يهيمن عليها لون واحد، هو الرمادي أو الأصفر العكر.. لست أدري لماذا وكيف يمكن أن يحدث هذا، وأنا رسام تضجّ لوحاته بالألوان الحارة المزركشة! فما أن أصحو من رمادي حتى تصحو معي ألواني الزاهية وتتجمع حولي مثل ربيع صغير. لوحاتي التي تلتصق بالجدار شبابيكُ مفعمة بالضوء والزيت والألوان الصاخبة، ومع ذلك تنسلً أحلامي خلسة في العتمة، وتفتك بي.

تفاقم وضعي حتى بتّ أشعر بأني مصاب بمرض الفصام..! هل يُعقل أن يكون الإنسان متفائلًا في النهار، متشائمًا في الليل!؟

اتصل بي فرع الموت 201، بعد بزوغ الفجر بقليل جاءني الصوت: نحن فرع الموت.. عليك مراجعتنا قبل غروب الشمس.. هل تأتي بنفسك، أم نرسل دورية لجلبك.؟

قلت: لا. سأحضر بنفسي، وللتو.

أتصل أم لا؟

اتصل، وكنت -حينها- أجلس تحت شجرة وحيدة خضراء، يحيط بها خريف رمادي يابس. السماء؛ وحتى الأوراق المتساقطة، تحوّل لونها الرصاصي إلى الأصفر الداكن.

تحول أم لا؟

تحول، وطلبت منهم العنوان، قالوا: ستقودك قدماك إلى المكان. عليك أن تُحضر كفنًا أبيض ومجرفة سوداء، وتمشي بلا توقف حتى تصل.

كفن ومجرفة وقدمان! لا بأس. يعلمون أنني لن أهرب، وإلى أين أهرب وقد دخلت سن اليأس! حتى بيتي، المكتظ بالألوان والفُرَش، كان مستأجرًا.

ودعت زوجتي وألواني ومشيت. حملت المجرفة بيدي. وضعت الكفن على عاتقي ومشيت.. منذ خمسين عامًا وأنا أمشي، لكنني لم أصل -حتى الآن- إلى ذاك المكان.

ظهرت فوقي حشرة كبيرة سوداء ذات مروحة، تشبه ذبابة كبيرة أو خفاشًا معدنيًا. مذ خرجت من البيت وهي تحوّم فوقي وتتحرك أمامي متجهة نحو الشمال، تغيب، ثم تظهر من جديد، كما لو أنها تدلني على الطريق، تاركة صوتها العجيب يطنّ في أذني.

رجل غريب كان يقف في منتصف الطريق، يضع كفه فوق عينيه وينظر إلى السماء الغبراء، مشيرًا بيده الأخرى إلى تلك الحشرة صارخًا بأعلى صوته: “اقصف، لك اقصف، ماذا تنتظر! لا تترك أحدًا من هؤلاء العرصات”. ما إن اقتربت حاملًا بيدي المجرفة؛ حتى ابتعد بسرعة عن طريقي؛ ظن أن المجرفة ملوثة بالدم، ابتعد وهو ينظر إلى الحشرة الطائرة؛ خطر لي أن أناديه، أن أسأله عن مكان الفرع201 ، لكني عدلت؛ لأن الناس يتجنبون الحديث في أمر كهذا.

أمسيت عجوزًا طاعنًا في العمر ولم أصل، كنت أستأنس بتلك الذبابة، وأستمد القوة من دوامة صوتها الهوائي، لكن قدميّ لم تعودا قادرتين على حملي، أو إرشادي إلى المكان الصحيح، كنت أظن أنه غير بعيد عن فرع أمن الدولة. لم أفكر، أو يخطر ببالي أن أستريح قليلًا؛ قد أتأخر ويغضب مني رئيس فرع الموت هذا. ولم أجرؤ حتى على استئجار سيارة أو حافلة نقل. قالوا لي: عليك أن تمشي، وأرسلوا ذبابة تدلني على الطريق، فمشيت ومشيت.. لم تستوقفني الحواجز أو يطلب أحد هويتي. كان الناس يبتعدون عن طريقي وهم ينظرون إلى كفني ومجرفتي.

لكني أخيرًا توقفت، رغمًا عني، ولم أعد أستطيع المزيد، وما إن رأيت الشجرة الخضراء حتى جلست تحتها. ليغضب مني فرع الموت. دعتني الشجرة كي أجلس قليلًا أستظل بظلالها، فوضعت الكفن في حضني وجلست. كانت وحيدة، تشبه تلك. خضراء يحيط بها خريف رمادي كامل، حتى أوراقها الساقطة تجمعت حولي. تحول لونها الأصفر -أيضًا- إلى رصاصيّ غامق، الفارق الوحيد أن أحدًا ما حفر بآلة حادة، على جذعها القاسي سهمًا يخترق قلبًا مستديرًا، وقد كُتب تحت القلب عبارة: فرع الموت201 ؛

انتفضت. يا الهي! هل وصلتُ!

لم يكن كابوسًا حقيقيًا أو مجرد حلم. لقد سقطتُ بالفعل عن السرير، وسمعت صوت ارتطامي بالأرض. كان السرير عاريًا، يدير وجهه نحو الجدار، ويقف على رجل واحدة، مثل صليب فقد يديه وثيابه، وسقط غطاؤه في حضني كفنًا أبيض..

لوحاتي –أيضًا- كانت معتمة…

 

دمشق – صحنايا

نيسان 2016

مقالات ذات صلة

إغلاق