سورية الآن

هكذا أُبعدت عن سرير بنت الملك العقارب

تدخل مدينة بُصرى الشام عيد أضحى ثانيًا، بعد نيلها حريتها وانعتاقها من قبضة الاستبداد، وتخلّصها من أدواته الداخلية التي عاثت فسادًا ونهبًا وظلمًا على جيرانها، في مدينة لطالما شرّعت أبوابها لكل الحضارات، وامتزجت في معالمها العديد من الثقافات، فلم يجد هذا النظام من كل ذلك التراث، سوى موقعًا لنهب الآثار والاتجار بها، وموقعًا لرفع صورة الأسد الأب، ثم الابن، في صدر مدرجها العظيم، هكذا يفهم النظام قيمة الشواهد، وهكذا يعتدي على هيبة الأماكن، ليحول تلك القلعة إلى ثكنة عسكرية كاملة.

يمرّ عيد الأضحى مع نكهة الحرية التي تعيشها المدينة، إلّا أن حسرة بالقلب ستبقى تحجز مكانها، لتعبّر عن هذا الألم السوري المستمر في أنحاء البلاد، هذا النزف الذي ما زال يخفض سقف الفرح والاحتفال؛ ولذلك، عيون أهل هذه المدينة شاخصة، تترقب حرية سورية كي يكتمل المشهد، فمنذ أن أخرجت زبانية النظام منها في 25 آذار/ مارس 2015، حاولت ترتيب نفسها، وإعادة الحياة إلى شوارعها ولو بصورة بسيطة.

مدينة تُبعث من جديد

يقول ابن بُصرى، خالد الدوس: “إذا اختارك القدر شخصًا غريبًا أو مهجّرًا عن المدينة في الأعوام الماضية، ولم تر دماء سُفكت، وبيوتًا دُمرت، وأطفالًا شُرّدوا، واشتباكات مدوية على أطراف المدينة، ثم جئت لتستشرف النظر إلى هذه المدينة اليوم؛ لوجدت مداخلها صورًا واضحةً، تحكي لك حكاية الموت والحياة”، تلك الذكريات المريرة التي علقت بالذاكرة، يُحاول الأهالي تجاوزها -على طريقتهم- من خلال نفوسهم الكبيرة، كما يقول الدوس، وانتصارها على الظالمين الذين كان الطريق الشرقي الخارج من المدينة، هو آخر موطئ قدم لهم، ويُضيف الدوس في تعبيره عن الحريّة: “قُدّر لهذه المدينة أن تبُعث من جديد، وتنبض في عروقها الحرية بعد أن تعفّنت على جدرانها العبودية لسنوات طويلة، وتزين جبينها براية الثورة السورية، وقد استبدل الله الذل بالعزّة، والضعف بالقوّة، والعبودية بالحرية، والذكريات المريرة بآمال الحياة”.

الناشط علاء الوادي، يُشير إلى أنه “بعد الويلات التي ذاقها أهالي المدينة في الأحياء المحررة سابقًا، وسقوط أكثر من 400 من خيرة شبابها، ضحايا حرب النظام، ابتدأ العمل على تحرير المدينة، والتحضير للمعركة الفاصلة في التاريخ لعدة أشهر”، وعن كيفية الإعداد الذي أدّى إلى نجاح المعركة وتحرير المدينة بكفاءة ودقة، يوضّح الوادي، أنه تم تنظيم انتشار الفصائل المشاركة، وطريقة تحشيدها، وكذلك تدشيم النقاط التي تتحصّن بها المعارضة، ووضع خطط الاقتحام والمعركة بالكامل، وقد ساعد على هذا الأمر أيضًا عدم وجود إشكاليات تُذكر بين الفصائل”، وأضاف الوادي: “كانت قيادة المعركة من فصيل شباب السنة، المرابط على الثغور طوال السنوات السابقة للتحرير”.

التنسيق بين كافة القوى المدنية والعسكرية

يتم تقديم الخدمات في هذه المدينة بعد التحرير بحدودها المقبولة نسبيًا، بحسب الوضع المتاح، وحول إدارة الخدمات، يقول الوادي: إنها “تُنظّم “بالتعاون والتنسيق بين المجلس المحلي وقوات شباب السنة، وكلّ واحد بحسب اختصاصه والكفاءات التي لديه”.

من جهته، قال خالد الدوس: إن المؤسسات الخدمية “تابعت عملها مباشرة، وقدّمت جميع الحاجات اليومية للسكان”، وحول التعاون بين الفصائل والمجتمع المدني، يرى الدوس أن “التعاون مثمر على الصعيد الإنساني والإغاثي، وفق مبدأ التكافل الاجتماعي؛ ليقوم بسد النقص الذي تعاني منه خدمات البنية التحتية من كهرباء وماء ولوازم طبية؛ وحتى التربية المدرسية، والعناية النفسية بالمتضررين من الحرب”.

بعد خروج المدينة عن سيطرة النظام، والذي تعاضد لتحقيقه أبناء حوران، يشير الدوس إلى أن قسمًا من الأهالي الذين هُجروا، بفعل ظلم النظام والميليشيات، عادوا إليها، ويؤكد أن هنالك عددًا من الضيوف في المدينة، قدموا من مدن الشمال السوري ودمشق وبعض مناطق درعا، وفي المقابل، مازال هناك عدد من المُهجّرين من أبنائها موجودين في بدول الجوار، وعن الأجواء العامة في المدينة، قال: “يمكن القول عنها بأنها آمنة”، وعن تنظيم العلاقة مع المناطق الأخرى في درعا، والتي تسيطر عليها المعارضة، قال: “إنها علاقة متواصلة وطيبة تحكمها الأخلاق الثورية ووحدة الدم والأراضي المحررة”.

بين السهل والجبل

وعن علاقة أهالي هذه المدينة بأهالي السويداء التي تحاذيها، خاصة أن النظام بذل جهدًا لزرع الفتن بينهما، قال الدوس: “العلاقة مع قرى ومناطق السويداء القريبة، مبنية على أواصر الأخوّة، التي ما زالت قائمة ما بين سهل حوران وجبل العرب، لتثبت -على مر الأيام- أنهما في  البوتقة نفسها في كل ألم وشدّة”، وبعد مرور تلك المدة على التحرير، نستطيع أن نقول: إن الأمور بخير، وأن النظام لم يستطع تنفيذ مآربه، على الرغم من محاولاته المتعددة في ذلك”، وحول ذلك، يقول الوادي ايضًا: “حربنا مع النظام لا أكثر، ويجمعنا مع السويداء كأهل ومحافظة وطائفة درزية كثير من الأواصر، وهم ونحن جزء من النسيج السوري”.

بعد تحرير بُصرى، المدينة التي أهمل النظام تاريخها وعظمتها، وحاول استهلاكه لغاياته، لا بد من السؤال عن آثارها وتراثها، وحول ذلك يُؤكد الوادي أنه “تم تفعيل دائرة الآثار في المدينة منذ الساعات الأولى لطرد النظام، وتم العمل على حفظ ما هو موجود من تراث ومعالم، واتُخذت إجراءات الحد الأدنى؛ لمنع الاعتداء عليها، وخاصة بعد تدمير النظام لمعالم عدة، منها سرير بنت الملك، وجزء من القلعة التاريخية”.

يعمل أهالي المدينة؛ كي تبقى بُصرى -كما كانت خلال تاريخها الطويل- عنوانًا حضاريًا، ويأملون أن يكونوا على قدر المسؤولية، ويؤكد الوادي أن الجميع “يسعى كي تُصبح مثلًا يُحتذى به في جميع المناطق السورية”، كما يُشير الدوس إلى أن بُصرى “آخر المدن الشرقية لمحافظة درعا، وأكثر المدن معاناة، وطال ليلها؛ حتى ظن بعضهم أن الفجر لن يطلّ، ولكن النصر تحقق على أيدي ابنائها الذين جعلوا هذا الفجر حقيقة”.

بُصرى الشام، المدينة الجنوبية الساحرة، هي أنموذج عما يمكن أن تكون عليه المدن السورية حين يرحل الطغاة، وبحرص أبنائها، بقيت تحمل المعاني السامية للحضارة، تلك المعاني التي حاول النظام الأسدي دفنها وتشويهها، وغدًا سيُعيد السوريون سرير بنت الملك إلى مكانه، الذي وصلت عقارب النظام إلى فضاءاته.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق