الخسائر السورية دون شك كثيرة، تبدأ من أعداد الشهداء والضحايا والمعتقلين، ولا تنتهي عند تهتك النسيج الاجتماعي السوري وتوزع الجغرافيا السورية على سيطرة سلطات عسكرية متضادة ومتصارعة، ولا يحمل أي منها الرؤية الوطنية اللازمة للنهوض بوطن، دون أن ننسى الخسائر الاقتصادية التي أعادت سورية عقودًا إلى الوراء؛ استنادًا إلى مؤشرات التنمية البشرية.
على الرغم من فداحة الخسائر السابقة، ولا معقوليتها وفداحتها لمن يعرف معنى الأرقام، لجهة الكوادر والخبرات والزمن، الذي نحتاجه مستقبلًا للوصول إلى الأرقام التي كانت، فضلًا عما خسرناه من تراكم، كان سيحصل في السنوات الخمس الماضية! على الرغم من هذه الفداحة، إلا أن الخسارة الكبرى لا تتجلى هنا، وإنما في مكان آخر.
من جملة الأهداف التي ثار السوريون لأجلها، هي العمل على امتلاك السياسة، وإعادتها إلى المجال العام، بعد أن “أمّم” نظام البعث السياسة، من ضمن ما أمّم، والتأميم -هنا- وفق المفهوم البعثي، ما يؤدي إلى عكسه تمامًا، أي: “خصخصة” السياسة لصالح السلطة، وإقصاء الشعب عنها، بعد “تأميم” الأحزاب السورية كلها آنذاك، وتحويلها إلى ملك “عام” للدولة (التي هي السلطة في الحالة السورية)، ممثلة بالجبهة الوطنية التقدمية، التي يسعى نظام الاستبداد إلى إعادة إحيائها -اليوم- وفق صيغة جديدة، عمل -ويعمل- عليها منذ بداية الثورة، دون أن تعطي المعارضة -حتى اليوم- كثير انتباه لهذا الأمر الجوهري والحيوي، إذ بعد خمس سنوات ونيّف، نجد أن حصيلتنا من السياسة التي سعينا لاستعادتها بدماء الشهداء والضحايا والمعتقلين واللاجئين ليست أكثر من صفر سياسي! في الوقت الذي باتت للنظام أحزاب جديدة (معارضة موسكو)، تحت اسم “معارضة”، تدور في فلكه، ويسعى إلى استثمارها في ساحة السياسة بعد أي تسوية مقبلة، لنكون أمام سؤال: ما الحصيلة السياسية التي راكمتها أحزاب المعارضة، أو القوى الثورية الجديدة، لتخوض معركة الصراع مع النظام على ساحة السياسة، سواء اليوم، أم غدًا إن توقفت الحرب.
حين نقول: الحصيلة السياسية، نعني بها التراكم الذي تحقق باتجاه توسيع مساحة السياسة السورية، وقدرة المعارضة والثورة على تشكيل قوى سياسية ومدنية واجتماعية، توّسع هامش السياسة الداخلي، وتؤطر الناس ضمن تنظيمات (أحزاب لها بعد مجتمعي حقيقي، وليست مجرد أمين عام وحوله بضعة أفراد، نقابات، مجتمع مدني)؛ لتدافع عن نفسها وتخوض معاركها وفق نفس طويل، بما يجعلها تمتلك القوة السياسية الممسكة بجزء من الأرض، بحيث لا تسمح لأي نظام -لاحقا- بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبما يقف ضد إمكانية الثورة المضادة.
لا نغفل -هنا- مسألة أن البعد الوحشي لنظام الأسد خلال الثورة وقبلها أيضًا، ساهم في منع المجتمع من استعادة السياسة؛ لإدراكه التام أن تشكلها بالمعنى الحي، يعني موته عمليًا. إلّا أنّ المعارضة، والقوى الثورية أيضًا، لم تقم بما عليها القيام به في هذا المجال؛ فهي لم تولِ الجانب السياسي أي اهتمام، ومناطق المعارضة التي انسحب منها النظام تشهد بذلك، إذ كم حزبًا سياسيًا نشطًا، بالمعنى الحزبي السياسي، في تلك المناطق؟
سابقًا، حين كان النضال السلمي يتجذر ويتوسع ويتمدد في سورية، كان التركيز على استثمار هذا النشاط وتوظيفه في خدمة إسقاط النظام، بعيدًا عن العمل الدؤوب على تأطيره ومأسسته؛ ليكون قادرًا على حماية نفسه والانتقال إلى ضفة السياسة، بمعنى أنه لم يُستثمر كثيرًا في هذا الأمر. وإن كانت الأشهر الأولى من الثورة السورية، قد حملت جنينًا واعدًا، حين ولدت تيارات سياسية كثيرة، عبّرت عن نفسها، إلا أنها سرعان ما ماتت أو تعطلت، بفعل تصاعد العنف الوحشي للنظام من جهة، واتجاه الثورة نحو التسلح والراديكالية التي تترك كل شيء للعسكرة، ولما بعد إسقاط النظام، لينشأ لدينا عسكر دون سياسة، فكان أن طغى العسكري حين امتلك القوة دون وعي سياسي يوجهه، وذلك كله بالتوازي مع شيوع نظرة تحقيرية للسياسة في أوساط الشباب والناشطين، بعد الأداء الهزيل للكيانات السياسية مجتمعة.
الاستثناء هنا، يتجلى بحالة “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي الذي لديه قوة سياسية منظمة، لديها مشروعها الكامل التي توّظف القوة العسكرية في سياقها، وأيضًا النظام الذي أنشأ عددًا من الأحزاب “المعارضة” التي يوظفها لتشتيت السياسة المعارضة، وإفقادها جوهرها، في الوقت الذي تعمل فيه قوته العسكرية على حصد نتائج قابلة للاستثمار على طاولة التفاوض أولًا، وفي اللعبة السياسية لاحقًا، في حين أن المعارضة لديها كيانات سياسية لا بعد مجتمعيًا، أو حتى عسكريًا لها، تبدو وكأنها معلقة في الهواء، مرفوعة على بيارق الدول التي تعوّمها، أو الثورة التي تستثمر فيها، أو التاريخ النضالي القديم، وهو كله مما لا يُصرف عمليًا في الساحة السياسية، الآن أو لاحقًا، أي أن المعارضة، والثورة أيضًا، لم تستثمر في الأمر جيدًا، ولم تعمل لامتلاك القوة السياسة التي يصعب لأي أحد تجاوزها، مهما تغيّرت موازين القوى ولعبة الداعمين التي تسعى للاستثمار في الثورة أكثر ما تسعى لانتصارها، أو تحقيق مصالح السوريين، وهذا أمر بديهي وطبيعي -للأسف- في السياسة، فإن لم تمتلك قوتك وسلاحك السياسي والعسكري لن تستطيع أن تفرض ما تريد، وهو ما يبدو واضحًا اليوم من سلّة التنازلات التي تقدمها المعارضة السورية بعد التحولات في المواقف الدولية، وهو ما يبيّن أنّ حجم التراكم السياسي الذي حققته في خمس سنوات يوازي الصفر.
خطر غياب السياسة في سورية، لا يأتي من احتمال بقاء النظام، أو إعادة إنتاج نفسه بناءً على ما سبق، بل من احتمال مصادرة المستقبل مرة أخرى؛ لأن السياسة هي الأداة التي تجعل من نضال السوريين فاعلًا، وهي الأداة التي تحقق لثورة السوريين معناها الحقيقي، أي أن يحصن المجتمع نفسه سياسيًا؛ بحيث لا يحتاج إلى ثورة في المستقبل، وعليه فإن انتصار الثورة -عمليًا- لا يتحقق دون استعادة السياسة، وإعادة بنائها في سورية، وهو ما يجب أن يتركز عليه الاهتمام، ولعل المشهد التركي أبلغ دليل على ذلك؛ حيث وقف السياسيون (موالاة ومعارضة)، والشعب، والقسم الأكبر من الجيش في وجه الانقلاب، دفاعًا عن حياتهم السياسية، التي تشكل جوهر الديمقراطية، على الرغم من كلّ ما يشوب الديمقراطية التركية من عيوب.