بعد تراجع الإمبراطورية البريطانية، بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط السلطنة العثمانية، وظهور الولايات المتحدة كقوة جديدة على الساحة الدولية، وتحديدًا منذ عام 1927، بدأ الأميركيون يُفكّرون بطرق لاستخدام الإسلام أداة سياسة وأيديولوجية، وأول اتفاق منح الأميركيين سلطة ونفوذًا في هذا المجال كان الاتفاق المُوقّع بين الرئيس “دوايت أيزنهاور” والملك السعودي عبد العزيز آل سعود عام 1937، وبموجب هذا الاتفاق حصل الأميركيون على النفط، وحصلت السعودية على الحماية الأميركية والأمن.
منذ ذلك الحين، أصبح واضحًا للولايات المتحدة أن الاستثمار في الإسلام السياسي يُسهّل عليها التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكذلك إدارة الصراعات الدولية، كما أنه وسيلة لاحتلال الأسواق العالمية، والسيطرة على مصادر الطاقة والثروات الإستراتيجية، ولتوسيع سيطرتها وهيمنتها على مستوى العالم، وإعادة إنتاج نظامها القائم على مركز وأطراف.
استخدمت الولايات المتحدة الإسلام السياسي بشكل فاعل في أثناء الحرب الباردة، وخلال “الجهاد” ضد الروس في أفغانستان، وحتى في سقوط الاتحاد السوفياتي، وكانت ذريعة هذا الإسلام -طوال تلك الفترة- هي محاربة الإلحاد والكفر، وكأن الأميركيين يمثلون” قمة الإيمان”.
في تلك المرحلة، تعاملت الولايات المتحدة مع الإسلام السياسي شريكًا؛ ما دفعها إلى التساهل معه خلال بنائه منظومته الجهادية والعسكرية، وفي مراحل تصعيد الفكر والثقافة السلفية، القائمة على الجهاد والتبشير واعتماد العقلية الحربية، بل وأكثر من ذلك، صارت تتغاضى حتى عن علاقات العبودية الموجودة في بعض الدول الإسلامية، وعن انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرها من حقوق.
بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، على برجيّ التجارة العالمية عام 2001 في نيويورك، بتدبير (تنظيم القاعدة) بقيادة أسامة بن لادن، تغيّرت العلاقة بين الأميركيين والإسلام الجهادي، بشكل جذري؛ حتى أصبح هذا الإسلام الجهادي هو العدو الأول للولايات المتحدة.
لم يكن هذا التحول بريئًا، خاصة بعد أن اتّضح للولايات المتحدة أن الدور القديم للإسلام السياسي قد استُنفذ، وأصبح له دور جديد بعد سقوط جدار برلين.
تمت شيطنة الإسلام نفسه، وعدّه يُمثّل الإرهاب، ويُهدد الحضارة الإنسانية، وزيادة في الخبث، والاستعصاء، وبسبب المثابرة الأميركية لتحقيق مشروعاتها في منطقة الشرق الأوسط، تم وصم الإسلام وتحويله إلى حامل لقيم ومنظومة فكرية وثقافية وإيمانية إرهابية، تتناقض مع فكر حضارة الغرب وثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية.
هذا الاستثمار الأميركي غير العادل للإسلام، والذي لم يأت عن حسن نيّة، تحوّل -أيضًا- إلى أداة سياسية للسيطرة والهيمنة، وإعادة توزيع مناطق النفوذ ورسم الخرائط، وأداة لإشعال الحروب الأهلية والطائفية، وإشعال الحروب الدينية على مستوى أوسع، وأدّى إلى تهجير السكان واحتواء أطراف الصراع، وإعادة تسليح المنطقة، وتحويل كل اقتصادها إلى اقتصاد حرب، وتجارة فساد، وتجارة غير مشروعة.
يمكن القول: إن التدخل الدولي في سورية لإدارة الصراع، كان من أجل تعقيده، وساهم في زيادة التعقيد وقوع الإسلام السياسي في الفخ، فالتناقض الصارخ لطروحاته وتعاملاته واستراتيجيته مع قيم الغرب، دفع التدخل الغربي ليجعل حروب المنطقة مشروع حروب طويلة، يجني الغرب منها الأرباح، وتدفع الشعوب الأثمان الباهظة، حروب وُضعت لها معادلة دقيقة بحيث لا يمكن الانتصار فيها، ضمن وجود مفاتيح كل الأطراف المتصارعة بيد أميركا، وأميركا هذه لا يمكن ردّ سياساتها بأدوات بائسة.
يمكن القول: إن الصراع مع الغرب وحلفائه في المنطقة -بهذه الطريقة وبهذه الأدوات- هو قمة العبث، فالصراع من داخل قيم الغرب ومنظومته الفكرية والأخلاقية والأيديولوجية، أقل خطورة من الصراع مع الغرب من خلال قيم متناقضة باتت من مخلفات الماضي، وهو ما لم ينتبه له الإسلام السياسي العربي، والسوري بشكل خاص، فالغرب يستخدم -بخبث- القيم الجهادية -هذه- لتحصين نفسه، ولشيطنة الأخر، وللهروب من المسؤولية، وتبرير سياسته وسياسة النظام السوري نفسه، كما يستغل هذه القيم الجهادية اللا إنسانية شماعة؛ ليرفع العتب عن كاهله، وليُنهي تأنيب الضمير -الذي قد يأتي- بعد كل هذه الجرائم الكارثية في المنطقة وفي سورية على وجه الخصوص.
تعليق واحد