أدب وفنون

حقيبتي القديمة

فتّشت في حقيبتي القديمة، فعثرت على أشيائي المهملة:

  • قصيدة أعلنت فيها الحب على حبيبتي؛ فأعلن الرقباء عليَّ الحرب.
  • قصّة قصيرة أعلنت فيها فزعي من الجنرال الذي تتصدّر صوره كل حائط، بما في ذلك حيطان دورات المياه؛ فساقوني إلى محكمة الإرهاب.
  • صورة لأطفال حلفايا، وقد توزعت أشلاؤهم بين حطام أرغفة الخبز؛ فصنّفوني على أنني صناعة أميركية، من ماركة كامب ديفيد.
  • d بصوت سميح القاسم، يقرأ قصيدته الرائعة “تقدّموا تقدموا فكل شيء تحتكم جهنّمُ”؛ فاتهموني بأنني أخاطب الجيش العربي السوري بلسان سميح القاسم، واقتادوني إلى حفلة ترفيهيّة.
  • دفتر تحضيري عندما كنت مدرسًا، وقد زينته بوسائل الإيضاح، وثبت فيه ملاحظاتي عن كل طالب، وأحواله النفسية والاجتماعية؛ فظنوا بي الظنون، وأحالوني إلى وظيفة إدارية في مديرية الإسكان والمرافق، بتهمة إضعاف الشعور القومي، والنيل من هيبة الدولة.
  • دفتر ملاحظات، رصدت فيه السلوك غير السويّ والحالة المتردّية لبعض طلابي المتخلفين دراسيًا، والذين توصّلوا إلى مراكز عالية في الجيش والحزب والمنظمات الشعبية؛ فعدّوا ذلك قذفًا بحق من قامت الدولة على أكتافهم.

أغلقت حقيبتي على ما فيها، وأنا أحلم أن أمسح عنها الغبار ذات يوم. غير أن حفيدي الصغير استهواه شكل الحقيبة، وهو لا يعلم ما فيها من مصائب؛ وحملها، يريد أن يتباهى بها أمام أقرانه؛ فوقعت الحقيبة بين أيدي أولاد الحلال الذين يسترزقون من وراء هذا الأشياء القديمة، ويبيعونها في سوق الأنتيكة؛ ومن يد ليد، وصلت حقيبتي إلى المسؤولين عن أمن الوطن والمواطن؛ فشرفوا من صباح الله الباكر.

كنت ما أزال في ثياب النوم حينما استقبلتهم. وأنا “يا غافل لك الله”، ظننت أنهم جاؤوا يهنؤونني بالسلامة بعد إحالتي على المعاش عن خدمة أربعين عامًا في الوظيفة، لكنهم فاجؤوني بأن “المعلم” يريد أن يراني، فرحت من كل قلبي. ما زال في الوطن رجال يقدرون التعب، وليس صحيحًا ما افترى به المفترون، حينما حرّفوا كلمة “متقاعدًا” لتصبح: مت قاعدًا.

رحبت بالفكرة وشكرتهم من كل قلبي، وأبديت أسفي على تجشمهم عناء المجيء في هذا الصباح الباكر لدعوتي؛ “لماذا تكلّفتم؟! كان يمكن أن ترسلوا لي أحد المستخدمين من قبلكم”.

ظنوا أنني أسخر منهم، وأنا على نياتي؛ فطلب مني كبيرهم بكل لطف أن لا آكل شرى؛ “هو قالها بالقلم العريض: بلا أكل خرى ومشي معنا”، وأحاط بي اثنان؛ كل واحد له زند من حديد، وأنا بينهما أتأرجح مثل بندول الساعة. لمَ كل هذا الاحتفاء! لا أدري.

وضعوني في السيارة من الخلف، فامتعضت “هذه آخر أيامك يا أستاذ مسعود، تركب في السيارة من الخلف!” لكنني تذكرت لاحقًا أنني رأيت المحافظ مرة لا يركب في السيارة إلا من الخلف، فأخذت ذلك على أنه تكريم لي.

بعد مسير ربع ساعة، أكثر، أقل، لا أدري. وصلنا إلى المقر. أدخلوني إلى المعلم، ضرب كبيرهم رجله في الأرض، ورفع يده بالتحية:

ـ بتأمروا شي غيروا سيدي؟

فأشار لهم المعلم بقفى يده، فانصرفوا، وتركوني مع هواجسي وتخميناتي. “والله يا أستاذ مسعود الشغلة فيها إنّ. وقعتك مو بسيطة”

رفع المعلم بيده حقيبة يعلوها الغبار وقال:

ـ هل رأيت هذه الحقيبة من قبل؟

شهقت:

ـ هذه حقيبتي سيدي. جنى عمري.

ـ أكيد؟!

ـ أكيد سيدي. وأنا مستعد لأذكر لك جميع محتوياتها.

فتح الحقيبة، وأخرج منها c.d ورفعه بين سبابته وإبهامه:

ـ وهذا؟

ـ أي سيدي هذه قصيدة سميح القاسم تقدموا.

ضغط على الجرس؛ فدخل الجلاوزة الأربعة. فقال لهم: تقدموا. ففهموا الإشارة، وتقدموا نحوي يحيطون بي كما لو كنت عريسًا في ليلة الدخلة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق