مقالات الرأي

عن أيّ سورية يتحدّثون

على الرغم من تضارب مصالحهم، وتنافر أهدافهم، فإنّ مُعظم اللاعبين الفاعلين في اللعبة السورية، لا يفوّتون فرصةً إلا ويؤكدون فيها ضرورة بقاء سورية موحّدة. تنطوي هذه العبارة على قدر من السخرية، إذ لا يتطلّب الأمر أن يكون المرء على دراية بخفايا السياسة؛ ليكتشف ازدواجية خطابات معظم هؤلاء اللاعبين، وقد يكون من الصّعوبة بمكان التحقّق من المصدر الأصلي لإنتاج هذه “الكليشّيه” الإنشائية، التي يتشاركها الجميع، غيرَ أنّه بالإمكان القول: إنَّ ما تقدّمَ من سياسات لهؤلاء اللاعبين، وما راكموه من رأس مال سياسيّ إلى الآن؛ إنما يدلّ على أنّ ادّعاءات معظم المنخرطين في الصراع السوري، لا تعدو كونها غطاءً بلاغيًّا يُستَخدَم أوّلًا؛ للتمويه على استباحة الدّاخل السوري، ولتعزيز مواقع الأطراف المنخرطة في الصّراع الذي يوشك على تجاوز نصف عقده الأوّل؛ وثانيًا للتغطية على عجز هؤلاء، أو عدم اكتراثهم بالتوصّل إلى حلٍّ، يضع حدًّا لسفك دماء السوريين.

يتكوّن الخطاب السياسيّ للنظام السوريّ من مزيجٍ بروباغاندا باهتة، وشعارات جوفاء عادةً ما تحاكي عناوين كبرى، كالسيادة الوطنية ووحدة التراب وما إلى ذلك مما يزخر به القاموس “الوطني” “ذو العيون الخضراء”،  لنُخبة النظام وجمهوره على حدّ سواء، ويتوهّمُ أنصار هذا النظام ومريدوه بأنّه يدافع عن سيادة سورية ووحدتها، مع أنّ هذا النظام نفسه كان أوّل من أشرع الباب أمام التدخل الخارجي، وأخضع سيادة البلاد لإرادة أوصيائه، كما لم يتورّع عن ارتكاب الكبائر بحقّ السيادة والهوية الوطنيتين، وبحقّ وحدة البلاد ومستقبلها، وذلك عبرَ فائض العنف الذي أنزله بالسوريين، وما تلاه من انقساماتٍ مريرة عمل على تغذيتها والإفادة منها بشتى الوسائل، وليس من المفاجئ أن يكشف تقريرٌ أوروبي، نُشِرَ مؤخرًا، عن أنّ قرابة 40 بالمئة من الاستثمارات المسجّلة خلال العام الماضي، تركّزت في مناطق الساحل السوري، بينما تستمرّ طائرات النظام وحليفه الروسيّ بتدمير ممنهج للحياة، وللبنى التحتية في المناطق الخارجة عن سيطرته، ففي سياق جناياته التي لا حصر لها، اغتال النظام السوري ما تبقّى من رمزيّة هشّةٍ للجيش، واضعًا “حماةَ ديار السوريين” في مواجهتهم، وقبلَ ذلك، على مدار عقود من عُمرِ الكيان المستجدّ، لم يُترَك للسوريين ما يوحّدهم سوى الخوف وصورة “الأب القائد”، فيما يستمر “الأبوكاليبس” الأسديّ في تدمير وإبادة ما يرى فيه “سورية مُضِرّة” بنموذجه الممسوخ لـ “سورية المفيدة”، وحتى الآن، لا يجد أبواق النظام ومسؤوليه حرجًا في الحديث عن وحدة البلاد وسيادتها، فيما تُشرِفُ الميليشياتُ التي استجلَبَها من الخارج على تهجيرٍ علنيّ للمواطنين السوريّين، وإحلال من تراه مكانهم.

من بين اللاعبين الأبرز، يمثِّل موقف الإدارة الأميركية أنموذجًا حيًّا للازدواجية تجاه الكارثة السورية، فالولايات المتحدة لا يعبّر عنها موقف واحد، إذ بدا واضحًا -خلال الفترة الأخيرة لحكم أوباما- وجود تباين حاد في مواقف مراكز القوة فيها، تسبّب هذا الانقسام في الحدّ من فاعلية الدور الأميركي في سورية، قياسًا على حجم التأثير الأميركي في السياسة العالمية، وبينما يتفق البنتاغون والكونغرس على محاربة (داعش) فحسب، فإنّهما يختلفان حول التفاصيل الأخرى كافة، وفي حين يقول جون كيري بأنّ “وحدة سورية مهدّدة ما لم تنته الحرب”؛ فإنّ إدارته مستمرّةٌ في دعمِ أطراف لا تجد في وحدة سورية مصلحةً لها، قبل ذلك سبق لكيري أن قال بأنّه “من الصعب الحفاظ على وحدة سورية”، ليست هذه التصريحات الوحيدة للمسؤولين الأميركيين، فقد ذكر جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA”، أواخر يوليو/ تموز من هذا العام، بأنّه غير متفائل بشأن مستقبل سورية، و”إمكانية عودتها مرّة أخرى”، من المعروف جيّدًا أنّ حملات التمهيد الإعلامي عادةً ما تسبق إقرار وتنفيذ خطط السياسات الأبعد للدول الكبرى.

بدورها تريد روسيا إبقاء سورية موحّدة تحت سلطةٍ فرّقت السوريين، كما تستمرّ آلتها العسكرية في تعميق الهوّة بينهم، عبر انطلاقها من قلب النواة الصّلبة لمؤيّدي النظام؛ لتدمير مناطق الحاضنة الشعبية للثورة، بذريعة استهدافها “الإرهابيين”، وإلى الآن تسبب التدخّلَ العسكري الروسي بمقتل آلاف المدنيين السوريين، كيف لسياسةٍ -كهذه- أن تساعد في إبقاء سورية موحدة؟ موسكو دعمت أيضًا الميليشيات الكردية في الشمال الشرقيّ، بصرف النظر عن تطلّعات تلك المليشيات التي لا تتفّق -بالضرورة- مع التصورات المتداولة عن مفهوم وحدة سورية، وتقاسَمَ الروس مع الأميركيين لعبة دغدغة الحلم الكرديّ بكيانٍ يحظى بإدارة ذاتية، دونما التزامات واضحة؛ وذلك، لغرض الاستفادة من الإمكانات الكردية في الصّراع، وكما تُظهِره الوقائع على الأرض؛ فإّن روسيا تشارك  النظام في خلق الإطار النظريّ والفعليّ لمشروعات من قبيل “سورية المفيدة”، مع ذلك يتشدّق الروس كغيرهم في الحديث عن وحدة سورية!

في السياق عينه، لربّما يكون الدور الإيرانيّ أحد أكثر الأدوار خطورة على الكيان السوريّ، وعلى الرغم من فاتورته الباهظة، إلاّ أنّ ثِقله التدخُليّ، واندفاعه المحموم نحو مزيد من التورّط في اللعبة السورية، أتاح لطهران يدًا عُليا في تحريك الأراجوز الحاكم في دمشق، إذ تُشير تقاريرٌ متواترة إلى أنّ الإيرانيين هم مهندسو العبث بالخريطة الديموغرافية للبلاد، وما أفرزه من اتفاقات مشينة في كل من الزبداني وحمص وداريا، بسياستها هذه، إنّما تستثمر إيران في مستقبل الانقسام والثأريّة في سورية، وتُمثّل بيئة كهذه مهدًا خصبًا لطموحاتها ومشروعاتها في العالم العربي، مع ذلك لا يفوّت الإيرانيون فرصةً للتأكيد على تمسّكهم بوحدة سورية.

أمّا تركيا التي يأتي دورها مثقلًا باشتباك الخرائط، وحساسيات التاريخ والجغرافيا، وما بينهما من ملفّاتٍ شائكة، فتشارك الآخرين في السيمفونيّة إيّاها، أكّد جاويش أوغلو مؤخّرًا بأنّ “تركيا وإيران متّفقتان على وحدة سورية”، غيرَ أنّ مسار التحركات التركية يُعرّف تبعًا للهاجس الكردي المقلق لأنقرة، لدرجة يبدو عندها التمدّد الداعشي السابق على طول الشريط الحدودي لتركيا قليل الأهمية، مقارنةً بالخطر الذي شكّلته “قسد”، وعلى خلفية هذا التصوّر اندفعت القوّات التركية في عمق الأراضي السورية، فيما أشيع عن أنّ هذه الاندفاعة لم تأتِ من طرفٍ واحد، بل جاءت بعد استيفاء الحدود الدّنيا من التنسيق مع جوقة “وحدة سورية” بما فيها النظام السوري.

في الوقت الذي يكرّر هؤلاء ترديد عباراتهم الأثيرة حول ضرورة بقاء سورية موحدة، أنجز غالبيّتهم اقتطاع حصته من النفوذ في الصراع السوري، هذا النفوذ الذي يأخذ في الحسبان مراعاة القواعد الاستثمارية في تنويع المَحافِظ، وتجنّب وضع البيضِ كلّه في سلّةٍ واحدة، ولا يبدو أنّ هؤلاء في عجلةٍ من أمرهم، سواء على الأرض، أم في غرف الاجتماعات وقاعات المؤتمرات، فأوزانهم السياسية -اليوم- تستند إلى عدد وكلائهم على الأرض، وعديد طائراتهم في السّماء، فيما تُرسَمُ بالدّم السوري -وحده- خطوط الخرائط الجديدة وحدودها، دونَ أن نفهم عن أيّ سورية، وأيّ وحدةٍ يتحدّثون.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق