صمدت قلعة سمعان التاريخية والأثرية عبر العصور، ولم تستطع كل الحروب التي مرت على سورية أن تدمّرها، إلى أن جاءت آلة الحرب الحديثة، بعنفها وحقدها؛ لتفعل ما لم يستطع التاريخ فعله فيها، وليبقى السوريون في موضع المتحسّر على آثار وحضارات، سادت ثم بادت، ثم أبيدت، على أيدي آلة النظام الحربية التدميرية.
قصف طيران النظام الأسدي القلعة، وآذاها كثيرًا، ثم أطلق سلاح الجو الروسي صواريخ فراغية عديدة، أصابتها إصابات مباشرة، ودمرت أجزاء كثيرة منها، كما تعرضت هذه القلعة مرات عديدة للقصف المدفعي الغاشم، وسقط عليها بضع براميل متفجرة، عشوائية عمياء، في أزمنة مختلفة، وعلى مدار سنوات الثورة، وأحدثت بها أضرارًا كبيرة، حيث تم تدمير أجزاء رئيسة من بناء الكنيسة الأثرية، وسقط جزء من سورها، وأجزاء من بناء الكنيسة، وتم تدمير عمود دير سمعان الشهير بشكل كامل، والذي كان يتعبد فوقه القديس مار سمعان (العمودي).
تقع قلعة دير سمعان في جبل سمعان، على بعد 30 كم إلى الغرب من مدينة حلب، وتبعد حوالي 7 كم شمال غرب ناحية دارة عزة، وفي أعلى القمة في الجبل، تتربع قمة الشيخ بركات التي ترتفع نحو 600 مترًا.
بدأ الإمبراطور “ليو” بناء الكنيسة، وبعد وفاته تابع الإمبراطور “زينون” عملية البناء، وانتهى من عمارتها عام 490، تخليدًا للقديس سمعان، وتم بناء الكنيسة على شكل صليب مؤلف من أربعة أجنحة متعامدة فيما بينها، عدا الجناح الشرقي، ولفرادتها، تُعد واحدة من أروع الكنائس المسيحية في العصور الوسطى.
ولد القديس مار سمعان العمودي في قرية “سيسان” عام 389، وهي مدينة تقع بين حلب ومدينة كيليكية في تركيا، ولأن والده كان من عائلة ريفية، فقد عمل راعيًا للغنم، وعمل مار سمعان مع والده بعد أن صار يافعًا، وعندما تسنح له الفرصة كان يذهب إلى الكنيسة، وهناك كان يستمع لتلاوة الإنجيل من الكاهن، الذي استطاع بصوته أن يُحرّك حرارة الإيمان في أعماق الصبي الصغير، وكان عمره نحو ثلاثة عشر عامًا، فقرر الذهاب إلى جماعة من النُسّاك قرب مدينة “سيسان”، وبقي معهم سنتين كاملتين، انتقل بعدها إلى منسك آخر يرأسه “ايليوذوروس” العجيب، حيث تتلمذ على يده في أصول الحياة الدينية النسكية، وقضى حياته في الصلاة والصوم والتقشف والتعبّد، فكان يصوم عدة أيام، يبقى خلالها واقفًا مُسبّحًا ربّه، ومتأملًا الحياة والروح والقداسة، صار يتعبد فوق عمود يبلغ ارتفاعه حوالي 18 مترًا، وكان يزوره كثير من سكان المنطقة، فكان يدعوهم لتقوى الله وعبادته، والزهد بالحياة الدنيا، فذاع صيته بين الناس كشافٍ للأمراض، وحالٍّ للعُقد، وبقي كذلك حتى وفاته عام 459.
ظلّ المسيحيون (الأرثوذكس) يعدّون يوم وفاته في 26 تموز/ يوليو 459، ويوم دفنه في أول أيلول/ سبتمبر في إنطاكية، من الأعياد الدينية التي يحتفلون بها كل سنة، وأصبحت الكنيسة محجًّا للمؤمنين، ومتحفًا في الهواء الطلق للسياح الذين يأتون من جميع أنحاء العالم.
تم بناء الكنيسة فوق طبقة صخرية، على الطراز الروماني، وهي تتكون من مدخل يتألف من ثلاثة أقواس، ومُثمّن تمت عمارته وفق مخطط متميز، ويتصل مع أجنحة الكنيسة في الوسط بقوس، ويرتكز كل قوس على عمودين بتيجان كورنثية رومانية الطراز، وترتفع القبة المركزية على أربعة أقواس، تُشكّل المُثمّن.
ترجع الكاتدرائية (البازيليك) الشرقية إلى القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، وكانت مخصصة لإقامة الشعائر والطقوس الدينية، فيما تعود الكاتدرائية (البازيليك) الغربية إلى بداية الحقبة البيزنطية، وفيها خزان ماء تحول -في ما بعد- إلى حصن لدعم القسم الغربي من الكاتدرائية، وإضافة إلى هاتين، هناك الكاتدرائية (البازليليك) الجنوبية، التي كان يدخل منها الحُجّاج، وكانت الأرضية -أغلب الظن- مبلّطة بالفسيفساء والرخام، وهناك -أخيرًا- الكاتدرائية (البازليليك) الشمالية، التي تحتوي على ثلاثة قبور، ترجع إلى القرن العاشر الميلادي، وتقع أمام هذه الكاتدرائية مقبرة الرهبان، وكذلك المعمودية، وهي عبارة عن بناء مُنعزل، تم تحويله إلى جامع في العصور الإسلامية.
إضافة إلى هذه الأقسام الأربعة، تضم القلعة ديرًا كان ملحقًا بالكنيسة، ومؤلفًا من ثلاث طبقات، وفي أثناء الحفريات الأثرية التي قامت بها البعثة الفرنسية، بإدارة جان بيير سوديني من جامعة السوربون بباريس الأولى، عُثر على أحواض محفورة في الصخر، كانت تُستخدم كمعاصر للزيتون، وهناك المدفن الجماعي، ويأخذ اتجاه الكنيسة نفسه، ويرجع تاريخه إلى القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، وهناك مبنى الأروقة قرب المعمودية، الذي يتألف من أقواس مزدوجة عدة، ويعود تاريخه إلى القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، وهناك قوس النصر الذي تحيطه أبنية عدة، وكان يتم الدخول من خلاله إلى الموقع؛ لتمجيد القديس مار سمعان العمودي.
تؤكد المنظمات المسيحية الأهلية السورية أن منطقة قلعة ودير سمعان، لم يوجد فيها أي فصائل عسكرية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، الذي تدعي روسيا محاربته على الأرض السورية، كما لم يوجد فيها أي فصيل عسكري معارض متشدد، واستهجنت -في أكثر من بيان- القصف الروسي، وعدّته عدوانًا عن سابق إصرار وترصّد.
بات تاريخ سورية في خطر، فلا النظام يحترم عراقة البلد وتاريخها الذي لا يُقارن، ولا الروس معنيين بإبقاء حجر فوق حجر، ولا بقية التنظيمات المتطرفة ستهتم لأي أثر تاريخي، ولا بد للسوريين من رفع صوتهم عاليًا، لكل المنظمات والجهات العربية والدولية، لحماية ما تبقّى من آثار سورية من الدمار الشامل، وعلى المعارضة أن تدعو المؤسسات الدولية المعنية بالتراث والآثار المادي للبشرية، للتدخل والعمل على وقف التدمير المنهجي للتاريخ السوري من الطائرات الروسية وطائرات النظام، وهنا نُذكّر الدول والمؤسسات بما قاله القديس سمعان (العامودي): “من يتكلم فلينطق بكلام الرب بتواضع قلب، بأعماله قبل كلماته”.