سورية الآن

كيف نتخلص من الثور الهائج

ليس للدول التي تدخّلت في الشأن السوري عدد محدد، ولا يمكن حصرها بدقة، إذا ما أخذنا التدخل المباشر وغير المباشر عبر وكلاء أو وسطاء، لكن من حيث الفعل المباشر للقوى التي أعانت النظام على البقاء، من خلال أثرها الفاعل عسكريًا، سنجد -بشكل رئيس- روسيا وأميركا وإيران، وهنالك تدخل غير مباشر من خلال عناصر أو مقاتلين تحت مسمّيات مختلفة، بعضها تحت شعارات الدفاع عن المراقد الدينية الشيعية، وبعضها يتبع تنظيم الدولة الإسلامية، ونذكر من تلك الدول -على سبيل المثال وليس الحصر- لبنان والعراق وتونس وأفغانستان والشيشيان وأوزبكستان وباكستان، إضافة إلى عدد من جنسيات أوربية كفرنسا وبريطانيا وبلجيكا، وقد دخل عدد من هؤلاء سورية مع أسرهم، بينما تهجّر أهلها على وقع نيران أسلحة الأسد وأسلحته؛ فأصبحت أماكن كثيرة فارغة أمامهم.

هؤلاء المرتزقة من الجنسيات المختلفة، ما كانوا ليصمدوا ويكونوا فاعلين لولا الغطاء الدولي لهم بشكل مباشر، وأهم غطاء واضح وفاعل هو الغطاء العسكري من تلك الدول، وهي روسيا وإيران وأميركا، وهذه الدول اختبأت خلف عنوان مطّاط ومريب، هو “محاربة الإرهاب”، وكلٌ يراه من زاويته ومصلحته.

تقود أميركا حلفها على “الإرهاب”، في وقت أعلنت فيه صداقتها للشعب السوري، بل كانت أحد مؤسسي مجموعة “الأصدقاء”، إثر الفيتو الروسي الصيني لمنع قرار أممي يدين النظام، لكنها ومنذ ذلك الوقت، لم تقدم سوى وعود، ساهمت في نسج غطاء يثبت الأسد على الكرسي، أكثر من مساهمتها في تثبيت الشعب على أرضه، فقد عقدت إدارة أوباما صفقات دولية وإقليمية غير مفهومة، أدّت إلى إفساح المجال لزيادة منسوب القتل والتدمير، وخاصة بعد صفقة السلاح الكيماوي التي كانت نتائجها كارثية على السوريين، وقد أعقبها ابتكار البراميل البدائية الهمجية، وكأنها ثمن للصفقة البديلة للأسد، حيث مفعولها التراكمي يشابه القنابل الذرية على حجم الدمار الذي خلّفته، في هذا السياق رفضت أميركا -بحزم- إنشاء أي منطقة آمنة، تجعل السوريين يمتلكون مساحة آمنة داخل حدود وطنهم، كذلك وضعت فيتو على مساعدتهم من أي طرف بتقديم سلاح مضاد للطيران يحمي أسرهم وبيوتهم.

من جانب آخر، تدخّلت بتدريبها وتسليحها عناصر معدودة، عدتهم من الجيش الحر، لا يتجاوز عددهم العشرات، وقد فشلوا ما إن تحركوا على الأرض، ولم يعد لهم أثر يذكر، لكنها قدّمت دعمًا سخيًا لتدعيم وتنظيم بعض الفصائل الكردية، وبالذات ما يتبع “الحزب الديموقراطي” الكردستاني، بصفته الكردية وليس السورية، ثم دفعت إلى تشكيل ما يسمى بـ “قوات سورية الديموقراطية”، التي أصبح عمادها الأساس ما يسمى بـ “وحدات حماية الشعب” -الجناح العسكري لـ “الحزب الديموقراطي الكردستاني”، وكلّه بذرائع مكافحة “الإرهاب”، وليس لخلاص الشعب السوري، الأمر الذي جعل البلاد تذهب نحو خطر التقسيم، بل إن “تنظيم الدولة الإسلامية”، الذي تشكل الحلف الدولي ضدّه، قد ازدادت مساحات تمدده منذ الإعلان عن عمليات التحالف، فأصبح يمتلك مساحات متصلة تمتد على مساحة كبيرة، مع طريق مباشر إلى العراق؛ ما أثار الريبة بشأن دور التحالف، والغاية من هذا التدخل، فبدا وكأن أميركا تحاول إعطاء هذا التنظيم، شرعنة إقامة دولته وسن قوانينه الإدارية والعسكرية ورسم حدوده، وكذلك فرصة التحكم بالمعابر والنفط وغيرهما؛ لتثبيت دعائم اقتصاد أوّلي، وكل ذلك على حساب السوريين ودولتهم.

روسيا بدورها، أعلنت تدخلها المباشر لدعم النظام السوري ضد “الإرهاب”، ورأت كل الشعب السوري مجاميع إرهابية، فعملت المستحيل لتقديم كل ما يلزم لحمايته ومنعه من السقوط، وأتحفتنا مصطلحات النظام البائس بمصطلح “سورية المفيدة”؛ فعملت روسيا عليها، أي بتثبيت سلطة الأمر الواقع بحسب انتشار قوات النظام من جهة، وانتشار فصائل المعارضة من جهة أخرى، بوصفها سورية غير المفيدة، أي -بالنتيجة- تقسيم السوريين إلى شعب مفيد، وآخر غير مفيد، وهو بالحقيقة تقسيم ضمني بين السوريين السنة، وهم الأكثرية، وبين الأقليات التي “لا تملك” زمام أمرها؛ بسبب سطوة النظام، وعجزها البنيوي بحسب تركيبتها التاريخية، فكان القصف الجوي الشديد على المدنيين من الشعب غير المفيد من طيران روسيا، وقبله وخلاله طيران النظام؛ لقتل وإرهاب أكبر عدد ممكن من المواطنين، وكان استعمال القنابل الحارقة والعنقودية وقصف المستشفيات وبقية المنشآت الحيوية، بمنزلة رسائل واضحة للترحيل، وبذلك بدت روسيا كمن يحطّم الدولة السورية عن سابق إصرار وتصميم، إلى أن أخذت تُفاوض أميركا على إدخال طعام وحليب أطفال ومستلزمات طبية أولية، لتدل على أنها دخلت بمنهجية قاطعي الطرق، فيأخذ كيري صورة الحمل الوديع الحريص على حياة السوريين، ويأخذ لافروف صورة المرابي.

حصلت روسيا على عقود سخيّة من نظامٍ، بات رئيسه لا يملك زمام قلم وقّع به تلك الاتفاقات، وبخاصة اتفاق القاعدة العسكرية الروسية في حميميم، وجهّزت نفسها لهذا الأمر، منذ أن وقفت في وجه كل الدعوات لإحالة جرائم الحرب في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، أما على الخارطة الجيوسياسية، فكان دعمها أيضًا لـ “الحزب الديموقراطي الكردستاني” الذي دعمته أميركا، وجاء كذلك على حساب التنظيمات السورية الأخرى، وهكذا تقاطعت مساهمات الدولتين، في تعميق الجرح بين المكونات السورية؛ ليأتي تدخلها في تركيبة وفد التفاوض، ومحاولة فرض معارضة على قياسها وقياس بشار الأسد، بتفصيل أسماء تزيد من تشتت السوريين، وبمصطلحات إضافية عن معارضة خارج ومعارضة داخل، والضغط لحضور السوريين كمكونات طائفية واثنية وليس كشعب.

أما إيران التي لها استراتيجيتها المبنية على مبدأ تصدير ثورتها الدينية والثقافة الخمينية، فدورها التخريبي في المجتمع السوري يعود إلى حقبة الثمانينيات، حيث بداية عقود الزيارات المقدّسة نحو بعض المقامات المزعومة، وعقود استئجار فنادق عدة في وسط العاصمة، كمحاولة منها ليألف الناس -مع الزمن- منظر ثياب وعمامات وعادات معينة غير مألوفة في سورية، ساعدها على ذلك طبقة جديدة ناشئة من التجار، وكان للإعلام دور مهم، من خلال ما تبثّه ميليشيا حركة أمل وحزب الله في لبنان، ويؤثّر على المنطقة، وبالذات سورية؛ بسبب التداخل بين الدولتين آنذاك، تبعًا للوجود السوري في لبنان، لكن ذلك المشروع كانت تتعامل معه إيران بنفس هادئ وبطيء، إلى أن انسحبت إسرائيل من جنوبي لبنان، وابتدأ الحديث عن ضرورة الانسحاب السوري، ليأتي اغتيال الرئيس الحريري، والضغط المباشر على حليفها الأسد، وبالتالي؛ على أذرعها بلبنان، مع الاعتقاد بوجود نهضة لمشروع عربي مقابل مشروعها، فتحرّكت، مُستنفرة كلّ قواها التي بنتها في المنطقة، من لبنان إلى العراق، فاليمن.

ومع انطلاقة الثورة بزخم قوي في سورية، شعرت بخطورة ضياع جهدها الذي صرفت عليه الأموال الطائلة، فتقدمت مباشرة، وأصبحت جزءًا من قيادة المعركة على الأرض، واستقدمت معها كل جحافل المرتزقة، إلى أن غاب جيش النظام السوري بشكل شبه كامل في كثير من المواقع، لتحل مكانه تلك الميليشيات مع حرسها “الثوري”.

وهكذا توزعت المهمات جوًا للوجود الروسي، يُغطي نقص طيران النظام، ويفرض مشروعات غير سورية، مع دعم لوجستي للقوى الإيرانية المختلفة على الأرض، وثقل أميركي في عقد صفقات سياسية، هذه المشروعات الثلاثة التي لا تتقاطع مع أي مصلحة سورية، سوى أنها موجودة على الأرض السورية.  فإذا فهمنا مصلحة إيران منذ عقود، يتجلّى للسوريين أن أميركا وروسيا تؤديان مبارزات أشبه بإدخال ثور هائج إلى بيت، وترك الحبل له على الغارب دون معرفة السبب، سوى التمتع بالخراب أو الدم، وللأسف، ساهم الجميع في جعل السوريين لا يمونون على رغيف خبزهم وباب بيتهم، يترقّبون أن يُفصح الروس والأميركيون عن مصالحهم الحقيقية، لربما نفهم طريقة ربط الثور والتخلص منه.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق