ليس من المتوقع أن يكون الإصدار المرئي الذي أصدره تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أخيرًا، بعنوان “صناعة الوهم” الحلقة الأخيرة في سجل الرعب المرئي، الذي دأب التنظيم على بثه في فضاء الشبكة العنكبوتية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، منذ استيلائه على مناطق واسعة من العراق وسورية، وتأسيس ما يُسمى بـ “دولة الخلافة” قبل عامين.
فالتنظيم الذي خسر عددًا من قيادات الصف الأول في غارات جوية، والذي يشهد وجوده العسكري تراجعًا كبيرًا، وخسارات متتالية في البلدين كليهما، تحت وطأة ضربات قوى التحالف الدولي والقوات والفصائل المتحالفة معها، مازال يطبق الخناق على مساحات شاسعة في كل من العراق وسورية ويفرض سيطرته على مدينتين كبيرتين في البلدين المذكورين.
لا يبدو -على كل حال- أن هناك أي إشارة من التنظيم حول نيته في الانسحاب من مناطق أخرى، ذات حسابات استراتيجية مهمة، على الرغم من دخول القوات التركية إلى مدينة جرابلس الحدودية أخيرًا، وانسحابه من مدينة منبج بعد معارك دامية مع فصائل كردية مسلحة.
بمعزل عن سياق التطورات الميدانية الأخيرة، فإن اللافت للانتباه بخصوص الإصدار المرئي المذكور، أنه لا يأتي بالتزامن مع الخسارات العسكرية الأخيرة للتنظيم فحسب، بحيث يمكن عدّه نوعًا من الحرب النفسية ضد خصومه الكثر، أو لرفع معنويات مقاتليه، بل يتزامن صدوره وبثه مع قدوم عيد الأضحى من جهة، ويمتاز كسابقيه بحمولته المشهدية المشحونة بفظائعية غير مسبوقة من جهة أخرى، فالفيديو الذي يباهي فيه التنظيم المتشدد بقدرته على إجهاض المؤامرات الاستخبارية الغربية، ونجاحه في اختراق كل الاحتياطات الأمنية في الدول التي استهدفها في عواصمها ومدنها الكبرى، يظهر -عبر طريقة “إعادة التمثيل”- كيف تم كشف “الخلية الصليبية”، أولًا عبر اعترافات لخمسة عشر شابًا من مدينة دير الزور السورية، يتهمهم التنظيم بالتآمر والتجسس لصالح “الغرب الصليبي”، ليصار -بعد ذلك- إلى إعدامهم ذبحاً كقرابين بشرية، حيث تجري عملية الذبح في مسلخ حقيقي، أعدّ ليكون مسرحًا، تستكمل فيه عملية “إعادة التمثيل” الأولى، حيث بدا أن التنظيم أراد من خلال اتّباع أسلوب إعادة بناء الأحداث – القصة، إضافة مصداقية إلى أفعاله، فضلًا عن إكسابها بعدًا دراميًا وتشويقيًا، علاوة على تحقيق هدفه في جعل شكل العقاب المستحق “الذبح كأضحية” متسقًا مع ادعاءاته ومزاعمه بخصوص أفعال القتل التي يرتكبها، بوصفها مدفوعة بقصدية “مقدسة”، تُماثل تلك التي تدفع المسلمين إلى تقديم القرابين لله، بنية التطهر والاستغفار من الخطايا والذنوب.
يزخر الفيديو -كسابقاته- من إصدارات التنظيم بعنفٌ احتفالي دموي على الطريقة الهوليودية، غير أن اللافت للانتباه في هذا الفيديو، أن فعل الذبح بالسكين هاهنا، وعلى خلاف إصدارات التنظيم السابقة، يتم في مكان داخلي، ويُقدّم محاكاة عدمية وفظيعة لفعل بذل القربان والأضحية التي يمارسها المسلمون شعيرة مقدسة في أيام العيد تقرباً لله، ولكن مع اختلاف موضوع فعل التضحية هذه المرة.
فالأفعال التي تمارس في حال تقديم الأضحية تتكرر ذاتها هنا، في ما يبدو أنه ممارسة قصدية، تستهدف “حيونة” الضحية البشرية، عبر إخضاعها للعمليات ذاتها، بدءًا من نقل “الأضاحي” مُقيّدة، إلى تجهيز المسلخ، ومن ثم انتقاء “الأضحية” الملائمة للذبح عبر فحص سريع، حيث تُذبح وتُرمى قرب قناة التصريف الصحي، وتُرشّ بالماء وتعلق على الكلاليب المعدنية.
يبدأ مشهد الذبح المروع بحركة كاميرا ترصد زوايا المكان بشكل تفصيلي، لقطةٌ أولى لقضبان الباب الحديدي الضخم، ثم لقطة ثانية ترصد صورة وصوت سحب الجنازير والخطاطيف التي تعلق عليها الضحية عند السلخ، بعدها يظهر ما يبدو أنه المشرف على عملية الذبح، مرتديًا ثوبًا أبيض، على غير عادة مقاتلي التنظيم بارتداء ملابس ذات لون أسود أو كاكي.
يواجه المشرف على عملية الذبح الكاميرا، مصحوبًا بالمؤثرات السمعية المعتادة في إصدارات التنظيم، وهو يحمل سكينًا كبيرة، مستهلًا خطابه بحض المسلمين على ممارسة شعيرة التضحية، ومنوهًا إلى أن التنظيم سيقوم بدوره بالتضحية بمن يدعوهم “عملاء الصليب”. يقرن الذباح -هنا- فعله بفعل ملايين المسلمين الذين يُقدّمون الأضاحي، ويسهم -بفعله ذلك- في تشويه شعيرة مقدسة، طالما أثارت ممارستها حفيظة بعض قطاعات الرأي العام الغربي، إذ تحيل المحاكاة القاسية بين الفعلين هنا (تقديم الأضاحي لله وذبح خصوم التنظيم) إلى سياق تقديسي لفعل الذبح الذي يُمارسه التنظيم، في محاولة دعائية منه لإكساب فعله –ذبح “عملاء الصليب”- قداسة مشابهة للفعل الأول.
مع التشديد على الإدانة الأخلاقية والدينية الكاملة لفعل الذبح “الداعشي”، فإن ما يجب الانتباه له على المستوى الدلالي، من خلال هذه المحاكاة الهادفة إلى عدّ الفعلين، المذكور خطابًا والمنفذ بصريًا، من طبيعة “نبيلة” متماثلة، هو أن السلوك الشعائري الإسلامي الخاص بتقديم الأضاحي لله لا يتضمن أي نزعة تحقيرية للأضحية، ولا ينطوي على أي ميل عقابي بحقها، وذلك؛ لأن نّحر الأضاحي في المفهوم الإسلامي ليس عقابًا، بل فعل تقرّب يُمارَس لأجل هدف ديني بالأساس، وهو التّقرب إلى الله ، ولا شكّ أن المُشترك المعنوي في الجذر اللغوي بين “التّقرب” وبين “القُربان”، يضيء جانبًا مهمًا في قصدية هذه الشعيرة. فأي تقرب لله يُمارسه التنظيم المتطرف من خلال تطبيقه لمثل هذه الفظاعات التي لا تكتفي بشكل العقاب الوحشي، بل تحط بالمعاقب إلى درجة البهيمية الصرفة!
لقد شرّع الإسلام ذبح الأنعام، وجعل المسألة ترتقي إلى مرتبة الشعيرة: {والبُدْنُ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صَوافَّ فإذا وجيت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمُعْتَرِ كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون، لن ينالَ اللهَ لُحومُها ولا دماؤُها ولكن يناله التّقوى منكم كذلك سخّرها لكم لِتُكبّروا الله على ما هداكم وبشّر المُحسنين} (الحج)
فأي تقوى ينطوي عليها ذبح خمسة عشر شابًا، وتعليقهم بخطاطيف كالأضاحي، وتشبيه هذه الفظاعة بفعل تقديم القربان لله!
يبدو السؤال المطروح سالفاً على المستويين الديني والأخلاقي، قبل الإنساني والحقوقي، بخصوص هذه المجزرة المروعة مشروعًا وملحًا، سؤال يستقصي -بالدرجة الأولى- عن شرعية هذا الرعب العقابي وشكله واستحقاقه، فيما يخص تأصيله نصًا أو سلوكًا معتقديًا، يزعم تنظيم “داعش” المتشدد الحرص عليه وعلى الالتزام بحرفيته.
قد لا يبدو هذا التفصيل الدلالي مهمًا لبعضهم، ولا سيما أن التنظيم المتشدد يكاد يكون سباقًا -بشكل مرضي- في مضماري نزع النصوص والأفعال من أسيقتها الدلالية والتاريخية الخاصة، والمشروطة والوحشية المبتكرة المنفلتة من أي ضوابط أخلاقية أو شرعية، غير أن إضاءة مكامن هذه الوحشية والكشف عن خطلها، ربما يُسهم في نزع ورقة أخرى من أوراق الشرعية التي يتستر بها تنظيم “داعش”؛ لتبرير مُخيّلته الإجرامية وجرائمه، التي يبدو أنها، مع الأسف، لن تنتهي قريبًا.