في أول أيام عيد الأضحى نشر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مقطع فيديو، تم تصويره بطريقة سينمائية مُتقنة لعملية ذبح، نفذها بحق عدد من الشباب من أبناء مدينة دير الزور، بتهمة التجسس لصالح قوات التحالف الدولي، ولأنهم كانوا يرسلون معلومات وصورًا لمواقع التنظيم إلى التحالف عبر الإنترنت.
ظهر الأشخاص في مسلخ وهم مقيّدو الأيدي، ومكدسون فوق بعضهم بعضًا، قبل أن يقوم مسلحون بانتقائهم تباعًا لنحرهم كما تُنحر الخراف… وفي رابع أيام العيد قام الطيران الروسي أو طيران النظام بقصف مدينة الميادين، ليرتكب مجزرة راح ضحيتها خمسة عشر مدنيًا وعشرات الجرحى.
علاوة على ذلك، فإن محافظة دير الزور تغيب كليًا عن الاتفاقيات أو المباحثات التي تجري كافة، أو التي يتم التخطيط لإجرائها، والتي تٌناقش الأوضاع في سورية، وكأن المحافظة الثانية من حيث المساحة، بل والأكثر ثراء من حيث ثرواتها النفطية، ليست موجودة أصلًا على الخارطة، بل وكأن ما حدث ويحدث فيها، لا يندرج -أصلًا- ضمن المعادلة السورية، فهي ليست عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما هو حال جارتها الرقة، ليذكرها بعض قادة دول العالم في خطاباتهم، وليرسلوا طائراتهم كي تقصفها، كما فعلت القوات الفرنسية في أعقاب الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس، أواخر العام الماضي، وهي لا تُشكّل خطرًا على جوارها، كما هو الحال بالنسبة لمدينة حلب، بل إن المدينة متروكة هناك، بعيدًا في الصحراء؛ لتكون تحصيل حاصل في أي اتفاق قد يتم التوصل إليه، أو في أي تسوية يمكن أن تُقاد إليها الأوضاع، سواء أكان هذا الاتفاق روسيًا – أميركيًا، كما هو حال الاتفاق الذي تم التوصل إليه أخيرًا، والذي يُركّز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أم حتى خلال المفاوضات التي قد تشهدها مدينة جنيف السويسرية، كما هو متوقع في فترة لاحقة، وقد ألمح المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، إلى أن الدعوة للعودة إلى المفاوضات لن تتأخر كثيرًا، فما أسباب تناسي دير الزور التي يحتل التنظيم (داعش) مساحات واسعة منها منذ أواخر العام 2014، وهو يعمل جاهدًا على إفراغها من سكانها، ويعقد اتفاق تبادل تجاري مع قوات النظام، لم تعد تفاصيله خافية على أحد، وكيف تم إخراج هذه المدينة من المعادلة السورية كليًا، على الرغم من أن لهجة رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب تدلّنا فورًا على انتمائه إليها!
قد يكون سوء حظ المدينة قد أوقعها هناك، بعيدًا في الصحراء، تفصل بينها وبين المدن الأخرى مسافات ليست سهلة، ويُمثّل القصف الجوي المتواصل، سواء من قوات التحالف التي تدعي مطاردة (داعش)، أو من قوات النظام السوري وحليفه الروسي، تهديدًا مباشرًا لأي سيارة قد تتحرك من وإلى المدينة، التي تؤكد إحصاءات دقيقة أن ثلثي ساكنيها على الأقل قد غادروها، واختاروا النزوح إلى أماكن أكثر أمانًا، أو فضّلوا اللجوء وقطعوا الحدود باتجاه تركيا، فيما يمكث من تبقى من ساكني مناطقها وقراها تحت سلطتي نظام دمشق وتنظيم (داعش)، والذي يبسط سيطرته على المساحة الأوسع من نقطة الحدود العراقية – السورية في مدينة البوكمال، كبرى مدن المحافظة، وصولًا إلى مركز المحافظة، فيما يحافظ النظام على بقائه في بعض الأحياء، وصولًا إلى المطار العسكري الشهير، الذي ظل الجيش الحر يُحاصره قرابة عامين إلى أن وصل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى المدينة، وتغلبه على الجيش الحر بدعم جوي كبير من طائرات النظام، التي قدّمت الإسناد في أكثر من مكان لمقاتلي التنظيم في أثناء “تمددهم”.
عُدّت دير الزور مدينة منكوبة، وعادت إليها الأمراض التي انقرضت منذ عقود، وقد ضربتها مجاعة حادة قبل أشهر، جعلت طائرات الإغاثة تُلقي إليها بعض المساعدات، إلا أن تلك الحمولة وقعت في أيدي تنظيم (داعش) الذي باعها للأهالي الجائعين؛ ليتم تجاهل معاناتها بعد ذلك، بل ونسيانها كليًا، فلم تعد جائعة ولا منكوبة في نظر المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة الدولية، لأنها -ببساطة- عُدّت ميتة ربما؛ حتى في الوثائق الرسمية.
كانت دير الزور من أوائل المدن الثائرة ضد نظام دمشق، وكانت مدن البوكمال والميادين ثم القورية والموحسن من أوائل المناطق التي تحررت كليًا من سيطرة النظام، وأجرت انتخابات واختارت مجالس حكم محلية، وعينت أجهزة شرطة؛ للمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة، إلا أن تسلل “جبهة النصرة” (فتح الشام حاليًا)، عبر شعارها المُفضّل في إقامة “شرع الله”، مهد الطريق لاحقًا لدخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من الباب الواسع، فسلّمت (جبهة النصرة) مفاتيح المناطق إلى تنظيم (داعش) وانصرفت؛ ليرتكب التنظيم عددًا من المجازر بحق أبناء المناطق الذين قاوموا وجوده، كان أشهرها مجزرة الشعيطات التي راح ضحيتها مئات الشباب… ومنذ تلك الأيام، أي منذ أيلول/ سبتمبر 2014، ابتعدت دير الزور عن المشهد أكثر.
في الشريط الذي بثه في أول أيام عيد الأضحى، قال تنظيم (داعش): إن لديه أشخاصًا آخرين جواسيس وعملاء، وربما علينا أن ننتظر مشاهد ذبح أو حرق أو إغراق أخرى، وربما مجزرة أخرى ترتكبها طائرات التحالف أو الطيران الروسي، تُعيد المدينة من جديد إلى الواجهة، قبل أن تختفي ثانية ويطويها النسيان.