قبل ثلاثة أعوام، انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي صورة لأسماء الأسد، تجلس على كرسي أنيق بفستانها الأسود، تضع ساقًا فوق الأخرى، وسط دمار “مدينتها” حمص. كانت فكرة ناشطين سوريين، أن انتزعوها من مكانها على منصّة الأكاديمية الدبلوماسية في باريس، حيث التقت عام 2010 بعدد من المثقفين والصحافيين الفرنسيين، ورموها على الكرسي ذاته، لكن في حمص، بين الأبنية المدمّرة والمشروخة بفعل القنابل والقذائف والرصاص.
بغض النظر عن الدلالات التي تحملها تلك الصورة، إلا أن الأمر كان ضربًا من الخيال، أُريد منه -من جهة القول بأن حمص بريئة من “سيدة الخراب الأولى”، التي لم تكتف بالصمت عن جرائم زوجها والاستسلام لإرادته وحلفائه، بل كانت جزءًا من ذلك الدمار، ومُحرِّضة عليه وداعمة له، وتأكيد -من جهة أخرى- أن مهمّتها تتوقف عند زيارة جرحى الجيش النظامي وأعوانه وشبّيحته، وكأن الجرحى المدنيين لا ينتمون إلى سورية، ولا يحملون جنسيتها.
في أول أيام عيد الأضحى، انتشرت الصورة ذاتها، أو فكرة الصورة ذاتها، بلا رتوش، وبمنأى من مبادرة ناشطين؛ بشار الأسد، ببدلته الرمادية كلون الأبنية المُدمّرة والمُهشّمة والخاوية من سكّانها، يتمشّى مع جوقته في داريا وسط الخراب والدمار، يُصلّي صلاة العيد. الفرق بين الصورتين هو ذلك الخيط الرفيع بين الخيال في حالاته القصوى حدّ الهذيان، وبين الواقع الفادح بهذيانه الفاضح، واحدة تتخيّل الهذيان، وأخرى تؤكّده، توثّقه، بالصوت والصورة والألوان والضحك والضجيج والإسفاف في اختراع الإهانة، وفي الرائحة ربما.
الموجع في الأمر، أن ردود الفعل التي يثيرها ناشطون ومعارضون حول الممارسات التشبيحية لصحافيين مواليين، يتّخذون من المناطق المدمّرة مسارح لالتقاط صور مبلّلة بابتسامات حاقدة وشامتة، فتّحت خيال أجهزة النظام على ارتكاب المزيد. و”انتصارات” النظام في مناطق معيّنة لم تعد كافية وحدها -إعلاميًا- لتأجيج العنف والكراهية لدى جمهور التلفزيون الرسمي والأقنية المحسوبة على أجهزة المخابرات، فما كان منهم إلا أن اخترعوا وسائل إيضاحية مرافقة، تجعل من التوحّش سمة بديهية. والتوحّش إذ ينبت من أيدي ضبّاط وشبّيحة ومرتزقة يطلقون النار، ويرمون البراميل، ويعذّبون المعتقلين، ويقصفون ويحلّقون ويحرقون، يمتدّ إلى كل الموالين لنظام القتل، مهما اختلفت أعمالهم والمهن التي يمارسونها؛ فيصبح المخرج السينمائي متوحّشًا؛ إذ يجعل من مدينة سورية مدمّرة، مسرحًا لفيلمه، والممثلون يشاركونه التوحّش؛ إذ يتوجّهون إلى تلك المدينة التي مات سكّانها، أو اعتُقلوا أو هربوا أو هُجّروا.
الصحافي في وسيلة إعلامية بريطانية، بات واضحًا افتقارها للحد الأدنى من المهنية، يتحوّل إلى قاتل، إذ ينشر صورة التُقطت له بصحبة ضباط جيش النظام، احتفالًا بحصار حلب! واللافت في الصورة، أن صديق القاتل يتفوّق عليه في الوحشية! في الصورة، يقف ثلاثة ضباط يبتسمون وبالكاد تظهر أسنانهم، بينما يضحك الصحافي “القاتل” بفم ملآن إلى الحدّ الذي جعل عينيه تختفيان، تغوران في حفرتين لا تتسعان لشهيد واحد فقط من ضحايا النظام.
لم يعد ثمة متسع للخيال. رحل الخيال مع المُهجّرين من مدنهم وقراهم، فصار “الرئيس” رئيسًا لأمكنة يعمّها الدمار ولا يسكنها البشر! صار “رئيس” الحجارة والفراغ، يُصلّي في جامع مدينة أفرغها من سكّانها، يصلّي لما تبقى من أشلاء أبنية وأرصفة وصدى أصوات من طردوا من بيوتهم، فيتنافس مع “داعش” في التفوّق على خيالنا، “داعش” يذبح 19 شابًا من دير الزور كأضاحي العيد، و”رئيس الحجارة” يختال في مشيته وسط الدمار في مدينة قام بطرد من تبقّى من سكّانها، والمخرج القاتل قد يتخّذ منها منصّة لفيلمه المقبل، والموسيقي القاتل قد يطرب لمشهد الدمار، كما كتب قبل سنوات عن شغفه بالقصف الذي يطال ريف دمشق، وعن الوحي الذي انسكب “رصاصًا” على عقله كي يبدع ألحانًا جديدة.