هموم ثقافية

فيلم “أنا والعروسة”

عرس توثيقي يحتفي بأبطاله سينمائيًا وتلفزيونيًا بقافلة فرح ونجاة.

بدا الفيلم وكأنه عرس حقيقي لموكب فرح وهمي مكلل بغصة، لكنه تُوج -في نهاية المطاف- بأمنية محققة لمهاجرين ومهجَّرين، عبروا إلى موطن أكثر أمانًا واستقرارًا، مصطنعًا “كان”، ووليدًا؛ هو من محض خيال منمق بزغاريد وثوب أبيض وعرس وجوقة، والبحر هو الشاهد الحقيقي على معاناة لا تعبّر إلا عن نفسها، وعلى أحداث عاصفة متلاطمة بين المد والجزر، تصف كينونة كل تلك العذابات، محاطة بتعويذة من الأغنيات والابتهالات؛ لاجتياز حدود من نار هربوا منها؛ من جحيم موت شبه منتظر، إلى أفق يرتجون منه حياة عند كل ضفة.

هي قصة الفيلم الوثائقي (أنا والعروسة) الذي تجسد من حكاية حقيقية لخمسة مهاجرين سوريين فلسطينيين، باحثين عن اللجوء بقوارب الهجرة غير الشرعية، قطعوا المسافات من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، أملًا بحياة أفضل في القارة الأوربية، وصولًا إلى مدينة ستوكهولم السويدية؛ ليصطدموا في ترحالهم بواقع لم يكن يشبه إلا نفسه، ووجه آخر لرحى حرب مجنونة فتكت بالحجر والبشر، وسعير نيرانها حرق الأخضر واليابس، ففروا هاربين بأرواحهم منها؛ ليمضوا في سفرهم العبثي، لا يعرفون مصيرهم وأين تحط بهم سفن الترحال، إلى أن التقوا بصناع الفيلم: المخرج الفلسطيني السوري خالد سليمان الناصري، والإيطاليَيْن: أنتونيو أوغوليارو، وغابريّلِه دِلْ غراندِه، الذين قرروا مساعدتهم؛ لبلوغ السويد باقتراح فكرة لهذه الرحلة، كانت على شاكلة عرس إيطالي مزيف، يكونون هم أفراده ويمكّنهم من الوصول إلى شط النجاة، وفي الوقت نفسه، يمكن لهؤلاء الصناع إنتاج شريط سينمائي، يروي للعالم حكاية اللجوء بتفاصيل دقيقة، تصور الرحلة بكل محطاتها، ويلفت أنظار العالم الراكد والغافل، إلى قصتهم.

تمضي بهم قافلة رافقتها كاميرا أمينة، وثّقت حكايتهم، وأخرجت إلى الضوء فيلمًا وثائقيًا جديدًا من نوع خاص، أبطاله هم ذاتهم المهاجرون الذين ركبوا عرض البحر وسفن الموت، لكن كانوا يبدون بمنظر أكثر أناقة، فهم يرتدون زي العرس نفسه، الأمر الذي صعب تمييزهم كمهاجرين ذاقوا طعم الموت بكل أصنافه، ولم يتمكن أحد من توقيفهم على المعابر، كون مرورهم مخالف لشروط وقوانين الهجرة الإيطالية.

في زمن قياسي تمكن قسم المهمات السينمائية من تأمين المعدات ومكان الحفل والسيارات وثوب العرس، واستُدعيت العروس التي لبت النداء بسرعة، ودارت الكاميرا في أماكن مختلفة هي تلك المناطق التي مروا بها. الفرح كان هو الخط العام الذي سيطر على جو الفيلم من بدايته إلى نهايته السعيدة التي مكنت هؤلاء المهاجرين من قطع ما يقارب 3000 كم، خلال أربعة أيام، وحققت الغاية الإنسانية التي قام عليها الفيلم، بحصول بعضهم على اللجوء الإنساني، إضافة إلى حصول طاقم الفيلم على تمويل من إحدى المواقع، بعد عرض قصته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ومع وصوله مع أبطاله إلى الغاية المرجوة، طرح فيلم (أنا والعروسة) في مسيرته التوثيقية سيناريوَ جديدًا، وحلة جديدة خارجة عن أشكال السيناريوهات المقدمة في الأفلام التسجيلية سابقًا؛ فكان السيناريو المقدم تلقائيًا وغير مخطط له. لا أحداث فجائية ولا توقعات طارئة، وكله مرتب بتسلسل منظم، فجاء محكم الضبط، متناسق البناء، يقدم نفسه بنفسه، ويسرد الوقائع ضمن صيرورتها الزمنية الدقيقة بسلاسة، يحمل شخصياته الخمسة على تنفيذ أدوارها بعفوية مطلقة، منطلقة من انفعالاتها الذاتية وحالاتها الشعورية التي مرت بها خلال الفترة الزمنية التي شهدت ولادة الفيلم، وانتهاء مخاض عرسٍ كسر أسلاكًا شائكة، وضعها الواقع المرير نصب أعين المهجرين.

مشاهد الفيلم –معظمها- كانت تتواءم مع مشقات وصعوبات الانتقال، التي ترصدها عين كاميرا قلقة خائفة جريئة حينًا، متلصصة -حينًا آخر- على ملامح ووجوه أبطالها؛ لتصور مسارات المدن التي تعبرها أقدامهم وقلوبهم، فيتم التعبير عن هذه المناطق بكلمة أو إيحاء مختزل، كمحطة القطار في بورتا غاريبالدي في إيطاليا، والتي يسأل فيها العريس عبد الله عن وجهة القطار ومساره، وكذلك حفلة العرس في مارسيليا، وتلويحة الوداع عند اجتياز الأسلاك الشائكة الحدودية بقولهم: “وداعًا إيطاليا”. وهنا يستذكر المشاهد فيلم الحدود، ورائعة توفيق صالح عند استعراض مشهد أطلق عليه معبر الموتى، وكذلك مشهد خطة العبور إلى ألمانيا التي يجتمع فيها الأبطال مع مخرجي الفيلم؛ ليحددوا المسار الجغرافي لطريقهم والمناطق التي يجب المضي إليها، إضافة إلى الكلمات التحذيرية التي تحضهم على اتخاذ إجراءات الحيطة والدقة، في كل منطقة يمرون بها، كي لا يُكشف أمرهم ويُفضح شأنُ عرسهم المزيف، ويؤول بهم الأمر إلى سجن قرابته خمسة عشرة عامًا.

جاءت اللقطات عامة ومتوسطة، متلائمة مع الحالات المتنقلة للشخصيات وأماكنها، والتي كانت تروي قصصها وآلامها وذكرياتها، إلى أن وصلت إلى إيطاليا مظهرة -بشكل جلي- ملامح البؤس والقهر والترقب البادي على معالمها؛ لتنقل المشاهد إلى حالات الوجع والألم والقهر الذي كابدته هذه الشخصيات، منها ما هو مؤثر -بقوة- في حكايته ذاتها مع الهجرة،  كالمشهد الذي يروي قصة أبو نوار مع المراكب المميتة التي غرقت في عرض البحار، فكان يعبّر عما مر به من مشاعر مختلطة بين الحزن والمرارة، وبين الدهشة والإصرار على متابعته الحياة بابتسامة؛ ممسكا كأس نبيذ فرنسي يحتسيه بفرح، متحديًا ذكرياته، متابعًا استعجابه من تخلي دول أوربية عن مساعدة اللاجئين، فيضحك متهكما تارة، ويعبس تارة أخرى.. كذلك نرى الإصرار ذاته لدى الطفل علاء، مغني الراب البارع الذي يصر على الغناء باللغة العربية، إضافة إلى التركيز في كل الفيلم على إظهار حالات القلق والارتباك لدى صانعي الفيلم؛ المتزامنة مع تصرفات الأشخاص ومسؤوليتهم تجاههم، بحيث تم التعاطي مع الصورة بشكل يتواءم ومسمى العبور الجديد إلى واقع مجهول جديد.

تألق الفيلم –أيضا- في صياغة اللغة مع نسق الموسيقى والمؤثرات الصوتية والأناشيد التي جاءت في بوتقة شبه شعرية، وعلى الرغم من أن بعض المشاهد كانت طويلة، أو خارج سياق الفيلم، كمشهد غناء العروسة للبحر وأحاديثها على الرصيف مع رفاقها، عن رأيها في الحياة التي هي حق للجميع، كذلك القراءات الشعرية، واللقاء بشعراء في خضم الرحلة، إلا أنه بمجمله كان في سياق جديد متناغم مع الحدث والمضمون والرسالة التي أراد الفيلم تقديمها.

شخصيات الفيلم كانت تنبض بالحياة والقوة، ابتداء من “تسنيم”، العروس الشابة التي تكتب على جدار في إحدى مواقف الفيلم: “لا للحدود”، وتناجي البحر وتغني له تلك الممثلة الهاربة من مخيم اليرموك بعد أدائها دورها في فيلم “شباب اليرموك” الذي كان تغريبة جديدة للفلسطينيين، والذي أغدق جرحًا جديدًا على البلاد التي هُجّروا منها هجرتين، من وطنيين في آن معا، إلى عبد لله، العريس الشاب الفلسطيني السوري الذي كان واحدًا من قلة قليلة نجت بعد غرق قاربها قرب جزيرة لامبيدوزا، وكذلك أبو نوار وزوجته السورية منى، والطفل علاء مغني الراب الممتلئ حيوية ومرحًا .

عُرض فيلم “أنا والعروسة” على شاشة تلفاز الجزيرة الإنكليزية ضمن برنامج الشاهد 2016، بعد أن حصد ثلاث جوائز دولية في المحافل السينمائية، وهي جائزة مجمع نوادي السينما الإيطالية (فيديك) 2015، وجائزة النقاد الاجتماعية وجائزة حقوق الإنسان في مهرجان فينيسيا، وفي مهرجان البندقية السينمائي الدولي في إيطاليا، كما حظي الفيلم بلقب حدث المهرجان، وأطول تصفيق لفيلم استمر مدة ١٧ دقيقة.

يُعد الفيلم مشهدًا مميزًا لأفلام العبور نحو منافذ الهجرة غير الشرعية؛ مصوغًا بلغة حساسة جدًا، مثيرة للعواطف الإنسانية؛ حيث أبحر بمشاهديه في مشاعر متناقضة تجوب خلجات شخصياته، مقدمًا إياها بطريقة فيها الكثير من الذكاء، واضعًا المُشاهد أمام دهشة اللغة التوثيقية، محولًا ممثليه المهاجرين الى نجوم سينمائيين يمشون على سجاد أحمر في الصالات السينمائية، بعد أن كانوا أبطالًا يصارعون بؤس الطريق وأمواج البحار وأسماكه المفترسة، ليهاجر الفيلم معهم -بعدسته الاحترازية- بين خطين متوازيين؛ الألم من جهة والأمل من جهة أخرى، مرفرفًا كطائر سلام أبيض في ذاكرة القهر الإنساني، ليغدو نقطة تحول في عالم السينما التسجيلية.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق