الغارات الأميركية على مواقع قوات النظام في دير الزور، والغارة الإسرائيلية التي سبقتها على مواقع له في القنيطرة، تبدو ترجمة لأحد أهم البنود السرية للاتفاق الروسي – الأميركي، وهي تصبّ في اتجاه إعادة تأهيل النظام، من خلال “تفعيل” أبرز الركائز والعناوين التي جعلته مستمرًا في السيطرة على البلاد خلال خمسين عامًا، وهي “الصراع العربي – الإسرائيلي، ومواجهة المخططات الأميركية”.
بداية، وحول إصرار الولايات المتحدة على عدم نشر بنود الاتفاق، فإن مجلس الأمن الذي كان مقررًا أن يُناقش الاتفاق، في اجتماع يعقده لهذه الغاية، يوم الجمعة الماضي، أُلغي الاجتماع بطلب من روسيا والولايات المتحدة، إلا أنهم عادوا ليعقدوه في اليوم التالي، لكن من أجل هدف آخر، وهو مناقشة الغارات الأميركية.
قد يبدو ذلك خلافًا بين الجانبين: الروسي والأميركي، إلا أنه -في الحقيقية- يهدف إلى صرف الأنظار عن طرح بنود الاتفاق، وإبقائها سرّية، كما ترغب الولايات المتحدة، التي لم تُطلع أقرب حلفائها من الدول الأوروبية على ما توصلت إليه مع روسيا، والسبب في ذلك، هو أن تلك البنود في حال تسرّبت من خلال أعضاء مجلس الأمن، ستكون مُحرجة لها أمام الرأي العام، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأيضًا، تريد إبقاء تراجعها عن مواقفها الداعمة للشعب السوري، وإن كانت “للاستهلاك الإعلامي فقط”.
أما بالنسبة للنظام، فإن نشر بنود الاتفاق، يفضح حقيقة ما اتفقت عليه روسيا والولايات المتحدة؛ من أجل استمراره في الحكم، وهو ليس تسليم البلاد للوصاية الروسية، بل ضمان أمن إسرائيل و”محاربة الإرهاب”، وهو ما تريده واشنطن. بيد أن روسيا التي طالبت بنشر بنود الاتفاق بوثائقه الخمس، تبقى الطرف الوحيد الذي ليس لديه مشكلة في ذلك، فهي داعمة للنظام، وحاميته علنًا، وفي الوقت نفسه، هي ليست صديقة لإسرائيل فحسب بل حليفة لها أيضًا”.
النظام السوري الذي سارع -إثر الغارات الأميركية والغارة الإسرائيلية- إلى استثمارها وتوظيفها إعلاميًا، من أجل دعم إعادة تعويم “أكذوبته الكبرى”، بأنه يتعرض لمؤامرة صهيونية – أميركية؛ نتيجة وقوفه في محور الممانعة والمقاومة، لا شك في أنه لا يريد انكشاف حقيقته المتمثلة في اعتراف الإسرائيليين أنفسهم بخيانته للشعب السوري، فالباحث الإسرائيلي في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، إيدي كوهين، يقول قبل بضعة أيام في برنامج حواري مع قناة الحرة الأميركية: “إن سورية دولة مُنهارة مُفككة، والقادة الأمنيين والسياسيين في إسرائيل يتمنون أن يواصل الأسد الحكم، فالنظام لم يُطلق خلال أكثر من خمسين عامًا رصاصة واحدة في الجولان، لا بل على العكس، كان يُعاقب أي جندي يطلق الرصاص”، ويضيف: “إن الإسرائيليين يريدون رئيسًا ديكتاتوريًا يقتل شعبه، ويُعطي الأمان والاستقرار لإسرائيل”.
من جهتهم، نجح الروس -من خلال الاتفاق- في ضم “النظام” إلى محور محاربة الإرهاب في سورية، إلى جانب الولايات المتحدة، وهذا ما اعترف به كيري صراحة، خلال المؤتمر الصحافي الذي أُعلن فيه التوصل إلى اتفاق مع الروس قبل بضعة أيام؛ حيث قال: “اتفقنا على ألا يقوم النظام بإنزال الضربات الجوية في مناطق محددة، إلا أنه لن يتم وقف الضربات كافة، لأن هناك “داعش” و”فتح الشام”، اللتين علينا مواصلة الهجوم عليهما”؛ ما يعني أن النظام سيستمر في قتل المدنيين وتدمير المدن والبلدات؛ بذريعة محاربة الإرهاب، بينما يفُرض على فصائل الثورة الالتزام بوقف إطلاق النار.
واكب الوزير الأميركي تصريحه بموقف، عُدّ تمهيدًا لتراجع الولايات المتحدة عن مواقفها السابقة، القائلة إن الأسد فاقد للشرعية، حيث قال: “إن مستقبل رئيس النظام يقرره الشعب السوري”، وهو موقف يتطابق مع الموقف الروسي، فالجانبان متفقان على أن محاربة الإرهاب هي الأولوية، وأن الحل السياسي يمكن تأجيله إلى ما بعد الانتهاء من محاربة الإرهاب، الذي هيأ له النظام سورية ساحةً لجلب مزيد من المتشددين من أنحاء العالم، برضى وغض النظر من حكوماتهم؛ بغية التخلص منهم وقتلهم في سورية.
صحيح أن الأميركيين رفضوا مطلب الروس بطرح الاتفاق على مجلس الأمن؛ للحصول على دعم دولي له، إلا أنهما لا يتفقان فحسب، بل يُنفذان بنوده على الأرض؛ حتى قبل الإعلان عن التوصل إليه، فمهمة الروس كانت حماية النظام والحيلولة دون سقوطه، وهو ما كان وشيكًا قبل نحو عام، أي حين تدخلهم عسكريًا في البلاد، بينما عمل الأميركيون على عدم تزويد الفصائل المعارضة بالأسلحة النوعية؛ وحتى منع دول إقليمية من القيام بذلك، ورفضوا أيضًا مطلب تركيا بإقامة منطقة آمنة.
يُطرح سؤالان حول “أخطر اتفاق” يمكن أن يكون موجهًا ضد الشعب السوري في تاريخه الحديث، ولمواجهة الحقيقة في سورية، واحد بلسان الأميركيين: “لماذا نقف إلى جانب ثورة الشعب السوري، وقد أخذت الطابع الديني، سواء كان بفعل النظام، أو بفعل متطرفين آخرين تلظت من أيديولوجيتهم”، والآخر بلسان الروس: “لماذا نقف إلى جانب المعارضة السورية، وأمامنا تجربة الشيشان، وأليس النظام الذي تخلى عن مخزونة الكيماوي، خدمة لأمن إسرائيل الحليفة الرئيسة لنا في المنطقة، هو الأجدر بأن يكون حليفًا لنا؟”.
الخدمات التي قدمها النظام للولايات المتحدة، على صعيد استراتيجيتها في الانتقام ومحاربة “الإرهاب”، لا تُعدّ ولا تُحصى، بدءًا من إطلاقه سراح نحو ستين ألف متشدد إسلامي من معتقلاته، واحتلالهم مراكز متقدّمة في بعض “فصائل الثورة”، مرورًا بتسهيل تدفق المتشددين إلى داخل سورية، وانتهاء بقتله الشعب السوري، واتهامه بالإرهاب وتسليح الثورة و”تطييفها”، والخدمات التي قدمها النظام لإسرائيل أيضًا، ليست أقل أهمية من ذلك؛ فقد دمر الجيش وفكّك البلاد، وسلم المخزون الكيماوي الذي احتفظ به للأزمات، كورقة يلقيها أمام إسرائيل.